بعد أن مر العام الماضي بأدائه الاقتصادي المختلط هناك توقعات بأن تكون السنة الجديدة مختلفة ومتناقضة اقتصادياً في دول العالم.
لا شك أن السياسة النقدية استحوذت على جل الاهتمام خلال العامين المنصرمين، وستظل حاضرة خلال هذه السنة، وتنحو البنوك المركزية في اتجاه تخفيض أسعار الفوائد بعد أن تراجعت معدلات التضخم، لكن يبقى التخوف قائما من الانزلاق في موجة تضخم جديدة، مع انعكاس كل ذلك على أسعار صرف العملات في الحالتين؟
ربما لن تكون هذه المسألة ذات أهمية كبرى في البلدان الرأسمالية المتقدمة حيث ستحافظ عملاتها على أسعار صرفها من دون تغيرات تذكر، ولكن البلدان النامية والناشئة ربما ستواجه معضلة سعر الصرف نظراً الى ضعف امكاناتها الاقتصادية ومحدودية إيراداتها السيادية ، ويمكن أن نذكر من هذه البلدان تركيا والعديد من البلدان العربية ومنها مصر ولبنان والسودان وسوريا واليمن وربما تونس أيضا . هذه البلدان لا بد أن تعالج هذه الأمور من خلال اتباع سياسات نقدية ومالية ناجعة وحكيمة وواقعية وتتوافق مع متطلبات الإصلاح المالي والنقدي التي تتفاوض بشأنها مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات الدائنة.
يبدو أنه تم استيعاب التأثيرات الاقتصادية للحرب الروسية-الأوكرانية، لكن استمرارها لا بد أن يؤثر بشكل أو بآخر على الاقتصادات الأوربية وبطبيعة الحال على الاقتصادين الروسي والأوكراني
يواجه الاقتصاد العالمي أيضا، صراعات سياسية وأمنية وعسكرية في مختلف الأقاليم والدول، أهمها الحرب الدائرة في أوكرانيا التي شنتها روسيا منذ فبراير/شباط 2022، وأدت في بداياتها إلى مشاكل في امدادات النفط والغاز وساهمت إلى درجة مهمة في رفع معدلات التضخم بعدما تعطلت الامدادات الغذائية وإمدادات الوقود. لكن يبدو أن هذه الحرب أصبحت منسية وتم استيعاب تأثيراتها الاقتصادية "Discounted"، بيد أن استمرارها لا بد من أن يؤثر بشكل أو بآخر على الاقتصادات الأوروبية، وفي طبيعة الحال على الاقتصادين الروسي والأوكراني.
الصراع في غزة والحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يؤثرا كثيراً على أسعار النفط والغاز، وإن أثّرا على مسار السفن والبواخر في البحر الأحمر بعد التحرشات الحوثية المؤذية واضطرار ناقلات وسفن الى تغيير مساراتها في اتجاه رأس الرجاء الصالح، بما يرفع من تكاليف النقل ناهيك بتكاليف التأمين. لكن ستظل باهظةً خلال السنة الجارية، التكلفةُ الاقتصادية على قطاع غزة والاقتصاد الفلسطيني، بالإضافة إلى التكاليف الإنسانية، ولا بد من أن تتأثر الاقتصادات في البلدان العربية المجاورة، منها الأردن وسوريا ولبنان ومصر. وستتراجع أعداد السياح إلى هذه البلدان وتتراجع الثقة في الجدارة الائتمانية وتتباطأ معدلات النمو الاقتصادي.
الاقتصاد الأميركي يبدو نشطاً وتمكنت مؤسساته من إضافة 216 ألف وظيفة جديدة في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسجلت البطالة معدلاً لا يزيد على 3.7 في المئة، مع تحسن في معدلات الإجور
يشير تقرير إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في الأمم المتحدة للتوقعات الاقتصادية للعام 2024 إلى إمكانات تراجع النمو الاقتصادي من 2.7 في المئة في عام 2023 إلى 2.4 في المئة في السنة الجارية، بما يؤكد التباطؤ. لا تزال بلدان تعاني من تبعات جائحة "كوفيد-19"، ومن هذه البلدان الصين باقتصادها الكبير. لكن على الرغم من هذه التوقعات المتحفظة، فإن الاقتصاد في الولايات المتحدة يبدو نشطاً وتمكنت مؤسساته من إضافة 216,000 وظيفة جديدة في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسجلت البطالة معدلاً لا يزيد على 3.7 في المئة من قوة العمل الاجمالية في البلاد. كذلك هناك تحسن في معدلات الإجور.
وتذكر بيانات العمل الأميركية أن الاقتصاد أضاف 2.7 مليون وظيفة جديدة في عام 2023، تركزت في قطاع الخدمات من الدوائر الحكومية والرعاية الصحية وقطاع التعليم الى المطاعم والمنشآت الترفيهية والإقامة. وتبينت خلال الأسابيع الماضية قوة أداء سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة حيث أغلق مؤشر "داو جونز" Dow Jones في نهاية العام على 37,689 نقطة، مسجلاً تحسناً بنسبة 13.7 في المئة خلال العام. كما أن المؤشر لا يزال يسجل تحسناً في الأيام الأولى من هذه السنة. أما بقية المؤشرات مثل "S&P 500" و"نازداك" فسجلت 24.2 في المئة و43.4 في المئة على التوالي خلال العام، بما يعني تحسن قيمة الأصول المدرجة.
وتشير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD إلى امكانات التباطؤ في النمو الاقتصادي، لكن تقريرها الصادر في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي يلحظ أن الهند ستحظى بنمو بمعدل 6.1 في المئة خلال هذه السنة، في حين ستتمكن الولايات المتحدة من تحقيق معدل نمو يساوي 1.5 في المئة وتتمكن دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD من تحقيق نمو بنسبة 1.4 في المئــة. لكن أهم ما أشارت إليه المنظمة أن ألمانيا التي تمثل أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، لن تحقق نمواً يزيد على 0.7 في المئة، وكذلك حال بريطانيا. لا بد من أن تكون هذه التوقعات مثيرة ومقلقة لصنّاع السياسات الاقتصادية وقيادات البنوك المركزية بما يؤكد أهمية الالتفات إلى المصاعب التي تواجهها الاقتصادات الرأسمالية الرئيسة.
توقعات ايجابية للنمو في الهند 6.1 في المئة والصين 4.7 في المئة خلال السنة الجارية
يتوقع تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المشار إليه أن تتمكن الصين من تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 4.7 في المئة خلال السنة الجارية. يظل هذا المعدل مرتفعاً وإن كان لا يتسق مع معدلات النمو المسجلة في الصين خلال السنوات الماضية.
تعاني الصين، كما هو معلوم، من انكماش نتج من إغلاقات وتعقيدات جائحة كورونا والسياسات المتشددة التي اتبعت هناك، لكن ثمة أيضا مشكلات النظام المصرفي وتراكم الديون وانكشاف البنوك ومعاناة القطاع العقاري والمصاعب التي تواجه شركاته. تؤكد غالبية الخبراء المختصين بالصين أن أهم التحديات ستكون أوضاع القطاع العقاري السكني وضعف ثقة المستهلكين وغياب السياسات الاصلاحية الحازمة. فهل ستتمكن الحكومة الصينية من توفير المحفزات الكافية لدعم النمو الاقتصادي؟
ثم ماذا عن النفط؟ هل ستؤثر هذه المؤشرات على سوق النفط وتخفض الطلب ومن ثـم الأسعار؟ خفضت دول منظمة "أوبك" والدول المنتجة الأخرى المتحالفة معهـا "أوبك+" OPEC+ الإنتاج في محاولة لدعم الأسعار، لكن الأوضاع لا تزال حتى الآن غير متوافقة مع متطلبات الدول المنتجة. انخفضت الأسعار بنسبة 10 في المئة خلال 2023 على الرغم من المنغصات الأمنية الجارية ومنها حرب أوكرانيا وحرب غزة. خفضت "أوبك" الإنتاج بمقدار ستة ملايين برميل في اليوم، بما يمثل 6 في المئة من الإمدادات الاجمالية في العالم وخفوضات الدول الأخرى ومنها روسيا، ولم ينتج من ذلك أي تحسن في الأسعار بشكل مفيد.