مذهل ما سُرب من وثائق عن قضية الملياردير جيفري إبستين، خصوصا عندما نلاحظ أن ممارسته لكل هذه الجرائم الجنسية كان يجري منذ زمن ليس بالقصير، تحت سمع وبصر كل أهل المدينة التي يقيم فيها. فأول بلاغ ضده وقع في 2005 من قبل رجل من أهل بالم بيتش/فلوريدا، مكان إقامة إبستين الدائم، بأنه قد تحرش بطفلته البالغة 14 عاما، ليتضح أن إبستين كان يستدرج الصغيرات بحجة العمل، لا الدعارة، إذ كان يعلن عن حاجته لشابات يحسنّ التدليك (الماساج) ويدفع لهن مبالغ مغرية، ثم يطلب منهن أن يأتين بفتيات جدد لممارسة هذه اللعبة. وهكذا أسس شبكة تتمدّد لأن كل واحدة من هؤلاء الصغيرات جلبت لقصره عشرات من الفتيات القاصرات من أعمارهن.
قضية هذه الفتاة من بالم بيتش هي أول ما أدين به، وفي عام 2008 أدين بسبب ممارسته للدعارة واستخدام الأطفال لذلك، ومن هذه الممارسة اخترق عالم السياسة والفن والأعمال. هاتان الجريمتان هما الوحيدتان اللتان ثبت تورطه فيهما في السابق، حتى اصطيد في 2019 بتهمة التجارة في الجنس واستغلال الصغيرات لذلك، ليوجد مشنوقا في زنزانته بعد ما يربو على الشهر من فترة سجنه. وبرغم دعوى انتحاره إلا أن هناك شكوكا كبيرة حول هذا الانتحار المزعوم، فشبكة علاقاته تضع في قفص الاتهام جهات كثيرة، والشهر ليس بمدة كافية لكي يسأم الإنسان من حياة السجن. ربما أنه كان يعلم أكثر مما ينبغي، مع شبكة المعارف تلك.
ما فعله إبستين وأصدقاؤه هو فعل شرير بالمطلق ولا مجال للنسبية هنا
السؤال الذي يطرح هو لماذا كل هذه الأفاعيل الشاذة؟ شاب حسن الصورة ويملك المليارات والقصور التي تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات، والسيارات الفارهة والعشيقات الجميلات، ما الذي دعاه لهذا الفعل الإجرامي المشين؟ إذا كان يجد رغبة شهوانية تجاه تلك الطفلات، فهذا مرض نفسي يمكن استشارة طبيب نفسي بخصوصه. لكن ما الذي دعا أولئك الطفلات لزيارة قصر إبستين؟ لنبدأ بالسؤال الأسهل: الذي دفعهن هو الفقر ولا شك، ثم إنه كان ماهرا في تهوين الشنيع، فالحديث كان عن تدليك وليس عن ممارسة جنسية، فإن انخرطت الطفلة في اللعبة فهو الجنس الصريح، وإن رفع أهلها دعوى قضائية فالأمر لا يتجاوز التدليك. ماكر كالشيطان هذا الإبستين.
السؤال الذي بقي هو لماذا فعل ما فعل؟ لماذا لم يستمتع بحياته في إطار القانون فقط؟ الجواب: لأنه كان يقدر. هو شرير وقادر، هذا كل شيء ولا حاجة للتبرير. ليس ضروريا الحديث عن حرية الإرادة ولا القسر لأن مثل هذا الحديث سيشتتنا عما يجب أن يقال. في الطريق الذي يسير فيه العالم اليوم، سوف يأتي وقت يناقش فيه حق "البيدوفايل" في ممارسة الجنس الكامل مع الأطفال، بدعوى حق الطفل في ممارسة الجنس مع من يشاء، وأن السن القانوني ليس سوى اجتهاد بشري يمكن تغييره أو حتى إلغاؤه. قصة إبستين في حقيقتها إرهاصة وتقدمة لما سيقبل عليه العالم إذا قلنا بنسبية الأخلاق وتخلينا عن المقدار المتفق عليه منها. الأخلاق صورة من صور الوعي الاجتماعي تنعكس فيه الخصال الأخلاقية لواقعنا الاجتماعي وهذه الخصال هي جماع معايير حياة أي مجتمع. ما فعله إبستين وأصدقاؤه هو فعل شرير بالمطلق ولا مجال للنسبية هنا.