المؤرخ العمراني نزار الصياد: بعض رسومات المستشرقين للقاهرة خيال مصطنع
صدر له أخيرا كتاب "القاهرة المؤرخة"
المؤرخ العمراني نزار الصياد: بعض رسومات المستشرقين للقاهرة خيال مصطنع
القاهرة: يقول المؤرخ العمراني المصري د. نزار الصياد "كنت أعي تماما أنني كأي مؤرخ لا يمكن أن أعرف أو أن أكتب عن كل جوانب القاهرة إذ يتطلب هذا عملا جماعيا". ولد الصياد بمصر 1956، وشغل منصب أستاذ التخطيط والعمارة والتاريخ الحضري في كلية التصميم البيئي بجامعة كاليفورنيا بيركلي، الولايات المتحدة. كمؤرخ عمراني، أصدر الصياد مؤلفات عدة حول الاستعمارية، الهوية، العمارة الإسلامية، التصميم العمراني، التاريخ العمراني، العشوائية الحضرية والافتراضية. لكنه خص مدينة القاهرة بالعديد من الكتب مثل "قاهرة العصور الوسطى" وكتابه الأخير "القاهرة المؤرخة" الذي يقع في جزءين. هنا حوار معه.
تقول إن "القاهرة ليست قاهرة واحدة بل قاهرات"، يبدو أن شغفك بهذه المدينة ذات الطبقات التاريخية والثقافية المتعددة دفعك الى الكتابة عنها في مؤلفات عدة باللغتين الإنكليزية والعربية متناولا محاور مثل العمران والسينما، حدِّثنا عن ذلك.
بدأ اهتمامي بالقاهرة والقاهرة التاريخية خصوصا مذ كنت طالبا في جامعة القاهرة في سبعينات القرن الماضي عندما طُلب مني أن أجري بعض الأبحاث في مواد تاريخ العمارة لتخطيط المدن. وعندما ذهبت إلى الولايات المتحدة الأميركية لإكمال دراسات الماجستير والدكتوراه بدأت أكتب عن القاهرة من زوايا مختلفة. صدر أول كتاب لي في هذا المجال عام 1981 بعنوان "شوارع القاهرة الفاطمية"، وفي عام 1991 أصدرت "مدن وخلفاء: عن نشأة وتطور العمران العربي الإسلامي". مثّل هذا الأخير رؤية جديدة للقاهرة من زاوية اتسمت بالموضوعية، إذ اجتزت من خلاله مرحلة الانبهار بالمدينة العتيقة التي ظهرت في الكتاب الأول. وفي 2007 نشرت كتاب "قاهرة العصور الوسطى" الذي لم يترجم إلى العربية حتى الآن. من وجهة نظري، أهم كتبي هو "القاهرة تواريخ مدينة" الذي صدر عن منشورات هارفرد في يناير/كانون الثاني 2011 وترجمه في مصر المركز القومي للترجمة سنة 2020 ثم أعدت كتابة هذا الكتاب بصورة مختلفة وبفصول باللغة العربية ونشرته "دار العين" سنة 2023 تحت عنوان "القاهرة وعمرانها".
لا يمكن أن أعرف أو أن أكتب عن كل جوانب القاهرة إذ يتطلب هذا عملا جماعيا، ويعاني الوسط الأكاديمي، خاصة المصري، من آفة النزوع إلى العمل الفردي
-
جاءت فكرة كتابك الأخير "القاهرة المؤرخة" من إدراكك أن معظم الكتب في هذا المجال أكاديمية لذلك لا يقبل على قراءتها سوى أهل التخصص، ماذا عن هذا المشروع؟
اشتغلت على توثيق تاريخ مدينة القاهرة في فترات زمنية مختلفة ومن جوانب عدة، لكني كنت أعي تماما أنني كأي مؤرخ لا يمكن أن أعرف أو أن أكتب عن كل جوانب القاهرة إذ يتطلب هذا عملا جماعيا، ويعاني الوسط الأكاديمي، خاصة المصري، من آفة النزوع إلى العمل الفردي. لذلك صمّمت في هذا الكتاب الجديد على أن يشترك في كتابته عدد كبير من الأكاديميين والباحثين المنشغلين بتاريخ المدينة وحاضرها، من الشباب وكبار الكتّاب في مجالات عدة.
اختلافات وخلفيّات
-
احتوى الكتاب على بعض الخرائط القديمة لمدينة القاهرة التي يختلف أسلوبها بحسب جنسية الرسام، هل هناك اختلاف جوهري بين الخرائط التي رسمها المستشرقون الإيطاليون، مثلا، عن تلك التي رسمها الفرنسيون إبان الحملة الفرنسية على مصر؟
أدّى الفنانون المستشرقون دورا مهما في توثيق القاهرة ومبانيها خاصة في القرن التاسع عشر أثناء مرحلة ما قبل استعمال الفوتوغرافيا. ويستعمل بعض المؤرخين المعماريين والعمرانيين بعض هذه الرسومات لفهم التحولات التي حدثت في القاهرة في هذا القرن، لكن الكثير من هذه الرسومات خداعة فقد تأثرت إلى حد كبير ليس فقط بجنسيات هولاء الرسامين ولكن أيضا بطرق وطرز الرسم التي تعلموها في بلدانهم في أوروبا. كما تأثرت رسوماتهم إلى حدّ كبير بالأماكن التي زاروها قبل زيارتهم للقاهرة، وبما كانوا يعتقدون أنها ستجلب لهم اهتمام رعاة الفنّ فيقبلون على شراء هذه الرسومات، لذا نجد أن بعض هذه الرسومات قد يكون دقيقا للغاية في توثيقه للمباني والأنشطة الحياتية في المدينة في ذلك الوقت، في حين أن بعضها عبارة عن خيال استشراقي يمثّل صورة مصطنعة عن القاهرة.
في "القاهرة السينمائية" استعنا بالأفلام لمحاولة سرد تاريخ القاهرة في مختلف مراحلها
-
في كتاب "وصف مصر" الذي كتبه القنصل العام الفرنسي في القاهرة بنوا دو ماييه عام 1735 صنّف القاهرة معماريا ثلاث شرائح حسب الطبقة الاجتماعية للفرد وكأنه يصف القاهرة حاليا...
وصفُ الكثير ممن زاروا القاهرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يذكّرنا بأن المدينة تتغير قليلا بمرور الزمن لكنها تحتفظ إلى حدّ كبير بطبيعتها الديموغرافية وتصنيف مبانيها، ولكن قد يكون إنجاز دو ماييه هو تذكيرنا أيضا بأن الكثير ممن زاروا القاهرة في تلك الفترة وقعوا في حب هذه المدينة على الرغم من كل مشاكلها كما يحدث الآن.
البحث الجماعي
-
نشرت كتبا عدة ساهم في تأليفها متخصصون في مجالات متنوعة، مثل كتابك الأخير "القاهرة المؤرخة" بجزءيه وكتاب "القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع"، كيف تختار المشاركين معك وكيف تقيّم مشاريع الكتابة الجماعية؟
أعددت وحرّرت الكثير من الأعمال الجماعية، فإلى جانب هذين الكتابين هناك أيضا كتب "المدينة الأصولية"، "أوروبا المسلمة" أو "الإسلام الأوروبي"، "استهلاك التراث"، "نهاية التقاليد والاستعمار وأشكال الهيمنة العمرانية"، "مدن عشوائية"، وغيرها. لم يترجم إلا القليل من هذه العناوين إلى العربية. وكل كتاب له قصة، فبعض هذه الكتب كان فكرة معينة خطرت لي وقرّرت أن أقوم بتحضير مؤتمر أو ندوة حول هذا الموضوع ثم أقنعت المشاركين بالمشاركة في كتابة فصول الكتاب. في حالة "القاهرة السينمائية"، اختلف الوضع قليلا، إذ أنني كنت قد وضعت كتابا بعنوان "مدن سينمائية"، وقرّرت أن كتابة تاريخ الحداثة في القاهرة من خلال السينما يتطلب مجهودا جماعيا، لذا درّبت مجموعة من الباحثين القاهريين الشباب وأوكلت إلى كل منهم مهمة كتابة التاريخ في فترة زمنية محددة أو في موضوع محدد باستخدام أفلام تلك الفترة كمحاولة لسرد تاريخ القاهرة، كما صورت وتخيلت في الأفلام وقد كان مشروعا ناجحا جدا.
-
على الرغم من أن عددا من المؤرخين ينحاز الى بعض المراحل التاريخية دون غيرها، فإن من يتابع إصداراتك يلاحظ أنك لست منحازا أيديولوجيا الى أي زمن بل تحاول رصد التاريخ المعماري من منابع عدة... هل تتخلص من قناعاتك الشخصية قبل البدء في العمل على مشروع جديد؟
كانت دراساتي في أثناء فترة الماجستير والدكتوراه عن القاهرة في العصور الوسطى، وقد يكون هذا تخصصي الدقيق كمؤرخ معماري وعمراني، وعلى الرغم من أنني أؤمن بضرورة التخصّص الدقيق، إلا أنني أدرك أيضا أن بعضنا اجتهد في أن يدرس ويتعلم خارج التخصص، فتصبح لديه مسؤولية أكبر لإيصال ما يعرفه عن العلاقات بين الأزمنة والأمكنة المختلفة ليس فقط إلى المتخصصين بل أيضا إلى عامة الناس. هذا الأمر هو الذي جعل إنتاجي يتمحور حول علم العمران المقارن، وهو علم يتطلب البحث في الكثير من المجالات منها الجغرافيا والاجتماع والأنثربولوجيا.