مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" صالح العاروري واثنين من قيادات "كتائب القسام" في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، برز في لبنان مشهدان لتشييعين متناقضين في العناوين والأهداف. في الجنوب كان يجري تشييع من سقطوا من "حزب الله" السائرين وفق توصيفه على طريق القدس، وسط أعلام الحزب والهتافات المنددة بالشيطان الأكبر والعدو الصهيوني، وكانت غزة تحضر بوصفها عنوانا جانبيا وفرعيا كلزوم ما لا يلزم، وبوصفها جزءا من عدة تحشيد آيديولوجي وعقائدي قد صار باليا من كثرة الاستعمال وعاجزا عن تجديد نفسه.
في المقلب الآخر، وفي منطقتي شاتيلا والطريق الجديدة البيروتيتين، كان تشييع العاروري يحمل معنى مغايرا تماما لناحية طبيعته وكثافة النيران التي أطلقت خلالها معبرة عن رغبة سنية في امتلاك خطاب الممانعة والمقاومة والتعامل مع الطرف الآخر، الذي طالما وظف امتلاكه هذا العنوان في فرض سطوة شاملة طالت كل شيء، من الموقع نفسه الذي كان يتعامل فيه مع الجميع. انفجر الصراع على امتلاك خطاب المقاومة والحق في التسلح وفرض القيم بين الجماعات السنية و"حزب الله"، وهو صراع يستولد صراعات مفتوحة شرعت في الظهور بين أصحاب السلاح ورافعي رايات النضال وبين بيئاتهم تمهيدا للسيطرة على قرارها قبل الانطلاق لمواجهة باقي المكونات.
ما بعد اغتيال العاروري لحظة فاصلة أطلقت كل الشياطين المكبوتة دفعة واحدة، وبدت تجربة "حزب الله" في الساحة اللبنانية مرجعا وأصلا تطمح الساحة السنية المفتقدة للمرجعية إلى استنساخه بشكل ينذر بتبدد مشروع الدولة، وإعادة إنتاج دور جديد للطائفة يخرجها من دائرة التوازن والاعتدال، والانتماء إلى فكرة الدولة على هشاشتها، لصالح تطرف يتخذ من فلسطين وغزة منطلقا لبسط السيطرة والتجييش الآيديولوجي على غرار تجربة "حزب الله".
مثل هذا النزوع يشترط الإقصاء والفرز، وكان لافتا تزامنه مع إسقاط الخطوط الحمراء فيما يخص التعامل مع باقي المكونات. الجيوش الإلكترونية التابعة لفصائل النضال السيبراني لـ"حزب الله" تطلق موجات منظمة من التهجم على البطريرك الماروني بشارة الراعي بعبارات بذيئة، وتدين مواقفه الداعية إلى رفض الحرب وحصر قرارها بيد السلطة اللبنانية والحكومة. الشعور المسيحي بالخطر يترجم في نمو موجات التسلح وفي استعادة المنطق الذي أسس للحرب الأهلية والذي كان قد ترجم مع انطلاق حرب غزة في مواقف تعادي الفلسطينيين بالمطلق، وتعيد التذكير بلحظات دموية من تاريخ الحرب، وسط إحساس حاد بالتهديد والتهميش وتغييب الدور.
تهم العمالة والصهينة تطال كل من يعترض على حروب الحزب المنضبطة في الجنوب، ولكن الجديد أن نغمة التخوين لم تعد تنطلق من جهة واحدة بل وقع الحزب في الحفرة التي كان يعدها للجميع. سياقات المعارك الحدودية الخاضعة لنظام منضبط ودعائي ومحدود استجر اتهامات للحزب من أوساط مقربة بالتخاذل، وارتفعت وتيرة الاتهام في الأوساط التي تخاصمه لتستخدم كل محموله التخويني ضده، فباتت الساحة اللبنانية تشهد حالة اعتراضية على "حزب الله" تتهمه بالصهينة والتفاوض على دماء اللبنانيين والفلسطينيين.
الفلسطينيون و"حزب الله"... انعدام الثقة
الطريقة التي اغتيل بها العاروري في الضاحية الجنوبية فجرت العلاقة بين "حزب الله" وكل المنظمات الفلسطينية في لبنان. ليس سرا أن مناطق "الحزب" محمية بشكل محكم ويصعب تحقيق مثل ذلك الاغتيال من دون تسهيل من "الحزب". عزز من نمو ذلك الشعور الفلسطيني بالخذلان لا بل بالتآمر. المواقف التي أدلى بها نصرالله في خطابيه المتتاليين حيث أتى على ذكر العاروري عرضا وكأنه عنوان فرعي وهامشي. الصورة الكبيرة التي حرص على تظهيرها كانت صورة قاسم سليماني التي تشكل حاليا صلب الاستراتيجية الإيرانية في حربها لصناعة الرموز وتكريسها. التصريحات الرسمية الإيرانية نظرت إلى عملية "طوفان الأقصى" كمجرد انتقام لاغتيال قائد الحرس الثوري قاسم سليماني، ما أثار ردود فعل فلسطينية غاضبة أدت إلى سحبه من التداول ولكنه بقي الناطق الرسمي باسم البنى التأسيسية الأعمق التي تقوم على أساسها السياسات والمواقف وردود الفعل.