النوافذ والأبواب: سبيلنا إلى العالم ومنجاتنا منهhttps://www.majalla.com/node/307851/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A7%D9%81%D8%B0-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%A8-%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D9%84%D9%86%D8%A7-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%88%D9%85%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%AA%D9%86%D8%A7-%D9%85%D9%86%D9%87
وهكذا فـ"ما هو موجود" هو ما يشكل إمكان كل شيء، أما "ما لا وجود له" فيشكل وظيفته.
لاو- تسو
"ماهية الباب تكمن في العتبة، وماهية النافذة، في الإطار"
ج. واكمان
يقال إن ما كان يميز النوافذ عن الأبواب في أوروبا، حتى القرن السادس عشر، هو الإغلاق. فالنوافذ لم تكن لتغلق، وهي لم تتألف من مصراعين إلا حديثا. كانت النوافذ كمصدر نور وتهوية وضبط لحرارة الغرفة، تظل مفتوحة من غير حاجة إلى إغلاقها. على الرغم من تعدد وظائف النافذة هي كانت تعتبر أساسا مصدر إضاءة. عبرها يتسرّب "ضوء النهار". كأنما تفقد دورها وأهميتها ليلا. فهي تشتغل نهارا، عكس الأبواب التي تتخذ أهميتها ليلا حيث يُحكم إغلاقها. لكن النافذة لا تقتصر على هذه الوظائف المعمارية الهندسية، فهي أيضا تفتحنا على الخارج. بينما تستجيب الوظائف المعمارية إلى حاجاتنا العضوية، فإن الوظيفة "البصرية" تلبّي رغباتنا.
من ناحية هندسية، النافذة جزء من كل، ولا معنى لها إلا ضمن منظومة، أما من وجهة من ينظر من خلالها فهي متفرّدة. كأن المطلّ من النافذة يستعملها في غير ما هُيّئت له، المطلّ نحو "الخارج" يستعمل النافذة خارج وظائفها الهندسية. يذكّرنا هذا باستعمال ثقب قفل الباب أداة للتلصّص. لكن، بينما يُستخدم ثقب قفل الباب لرؤية الداخل، فإن النافذة تطلّ على الخارج.
من ناحية هندسية، النافذة جزء من كل، ولا معنى لها إلا ضمن منظومة، أما من وجهة من ينظر من خلالها فهي متفرّدة
على عكس النافذة، فإن وظيفة الباب ليست هي الإطلالة والإبصار. وظيفة الباب هي تيسير الدخول والخروج، أما النافذة فإننا نبصر عن طريقها. لذا اقترنت بلوحة الرسام. "إذا كانت النافذة تقتضي النظرة من الداخل نحو الخارج، من الثقافة نحو الطبيعة، كما كتب ستوييكيتا، فإن الباب يمكنه أن يوظّف بصريا، لكن في الاتجاه المعاكس. ما يحدّده هو النظر إلى الداخل. فضلا عن ذلك، ليست النظرة من الخارج نحو الداخل هي ما تعطيه دلالاته المميزة، وإنما النظرة من داخل نحو داخل آخر. يتعلق الأمر بباب يخترق جدارا يفصل غرفتين، فضاءين. يعيّن الباب حدّا أقل حِدّة من النافذة التي تفصل الثقافة عن الطبيعة".
الداخل والخارج
ذلك أن الفصل بين داخل وخارج ليس نهائيا ولا حاسما، فقد خضع لتحوّل كبير حسب ما لحق مفهومات الانغلاق والانفتاح، والخصوصي والعمومي من حصر وتضييق. فبينما كان الباب يقتصر، في البداية، على تمييز "المأوى" عن "خارجه"، أخذت الأبواب تخترق شيئا فشيئا دواخل البيوت، لتُقحِم الخارجَ في الداخل، وليصبح لكل غرفة بابها، وليتعيَّن عند باب كل غرفة خارجُها، بحيث لن يعود في إمكان كل من في البيت أن يقتحم الغرفة إلا بعد "نقر" بابها، هذا إن كان في مقدوره ولوجها، علما بأن اقتحام الغرف جميعها ليس متاحا لكل من في البيت على السواء.
من هنا جاء الفصل بين داخل وداخل، ولا شكّ أن من شأنه أن يضفي على وظيفة الباب شيئا من التناقض. فإن كان الباب يصون الحميمية ويحميها، فيحول بيننا وبين الاطّلاع على "الأسرار" من ورائه، فإنه كما قلنا، يسمح لنا بأن نتلصص على من في "الداخل"، ونتنصت على ما يروج في البيوت. وإن كان يصدنا عن المرور، فإن له، مع ذلك، قوة جذب ديناميكية تدعونا إلى عبور الممرات واقتحامها. لذا فهو يقع بين – بين: فقد نفتحه على مصراعيه، وقد "نشقه" فنضعه بين الانغلاق والانفتاح، ولا نسمح بالتسرّب إلا لبصيص من النور وقليل من "الهواء النقي".
أما النوافذ فتفتح عادة على مصراعيها، لأنها تغذي البيوت بما تحتاج إليه من ضرورات العيش فتسمح بتسرب ضوء الشمس، ودخول نسيم الهواء، وتمكّن البيوت من التدفئة والتهوية. إلا أنها، بالإضافة إلى ذلك، تتيح إمكان رؤية الطبيعة كلوحة وصباغة. كأن النوافذ هي التي تجعل الطبيعة منظرا طبيعيا وفرجة.
من شرفتنا العالية يمكننا أن "نتفرج" على المارة، فلا نكتفي بالتلصص، بل قد نجرؤ على المراقبة وإشباع الفضول. أما الباب فيحرص على ضبط سلوكنا ويرعى سلامة معاملاتنا، ويتوسط علائقنا. فبالنقر عليه يؤذن لنا باقتحام حميمية الغير و"دخول البيوت"، وعندما نتجاوز حدود اللياقة نُطرد "خارجه". وقد لا يرضينا ذلك فنضربه تعبيرا عن استيائنا وغضبنا. ذلك أننا لا نتحمل أن "تُسد الأبواب في وجوهنا" معتبرين ذلك أقصى علامات الرفض وأشدها قسوة. لذلك نحن لا نلجأ إلى "طرْق جميع الأبواب" إلا في لحظات اليأس الشديد.
الباب لا يكون مبعث طمأنينة ومصدر شعور بالأمن إلا عندما ننظر إليه من "الداخل"، أما من الخارج فله دلالة متناقضة
وظائف نفسية
إضافة إلى هذه الوظائف الاجتماعية يقوم الباب بوظائف نفسية، فهو مبعث شعورنا بالأمن والاطمئنان، عندما نوصده نحس أننا "في بيوتنا"، وأننا بعيدون عن شرور "الخارج". يظهر أن الكلمة الفرنسية sortilège التي تعني ما يُلحقه السّحَرة من أذى، آتية من الفعل sortir الذي يشير إلى الخروج مع ما يترتب عليه من أخطار ومن تعرّض لـ"قوى الشر" التي قد نواجهها بمجرد أن نقتحم الأبواب. لعل هذا ما يفسر الرسوم التوتمية التي لا تزال تـزيّن مقابض بعض الأبواب إلى اليوم.
على الرغم من ذلك، فإن الباب لا يكون مبعث طمأنينة ومصدر شعور بالأمن إلا عندما ننظر إليه من "الداخل"، أما من الخارج فله دلالة متناقضة، فهو من جهة سدّ وحاجز يوقفنا عند عتبته، ويمنعنا من اقتراب البيوت حتى يَأذن أصحابها، لكنه من جهة أخرى دعوة "إلى الدخول" ودفع إلى الاقتحام.
لا ينبغي أن نفهم النقر هنا مجرد طرْق الباب لفتحه، ذلك أننا غالبا ما نضطر إليه حتى وإن لم يكن الباب مغلقا. مما يعني أن الإغلاق والانغلاق ليسا أساسا عملية تتجسد ماديا، وأن وظيفة الباب لا تعود إلى ماديته وصلابته، بل وحتى إلى وجوده الفعلي، إذ يكفي أن يكون قطعة قماش، أو سلسلة خيوط كتلك التي توضع على مداخل صالونات الحلاقة التقليدية، ما دامت وظيفة الباب في رمزيته، وفي تعيينه لانفصال بين أمكنة غير متكافئة، وتمييزه بين فضاءات لا تتمتع بالخصوصية ولا الحميمية نفسها.
أداة متناقضة
ألا تتصف النافذة هي أيضا بهذا التناقض: صحيح أنها، كما رأينا، أداة انفتاح وإطلالة على الخارج، إلا أنها، في الوقت ذاته، رسم لإطار: فهي تحدّد إطار مأوانا، وتعيّن حدود عالمنا، والزوايا التي ننظر منها إلى "الخارج". إنها تحدّدنا. تساءل باسكال: "ما هو الأنا؟ فأجاب: إنسان يقف في النافذة لكي يرى المارة".
قد يقال إن المعمار المعاصر في طريقه إلى أن يلغي أطر النوافذ، وربما حتى وظائفها. فهي لم تعد وسيلة "تهوية" ولا حتى منفذ دفء أو تبريد، كما أنها لم تعد "أطرا" محدِّدة وإنما غدت قطعة زجاج كبيرة تغلف واجهة عمارة بكاملها. فغدا البناء بكامله نافذة زجاج.
لعل هذا التحوّل هو ما أخذ يطرأ على الباب ذاته. فكأنما يميل وجوده إلى الزوال، وهو ما يفتأ يتحول إلى حاجز شكلي؟ عندما ألِجُ وكالة بنكية وأتنقَّل بين موظفيها من غير نقر أبواب ولا تخطي حواجز، وعندما أقف أمام باب مؤسسة كبرى فتتباعد قطعتا زجاج ضخمتان لتفسحا لي الممر، من غير حاجة إلى طرْق ولا نقر ولا استئذان، هل يحق لي أن أقول إنني اقتحمت أبوابا، أم أن الباب، كفاصل رمزي بين الفضاء الحميمي وبين "الخارج"، في طريقه إلى أن يفقد هو كذلك ماديته وصلابته، بل حتى رمزيته، ليغدو آليّ الحركة، شفّاف الصنع، شكليّ الوظيفة، وليقوم في فضاءات لا داخل فيها ولا خارج، فضاءات "تتهرب منها الحياة الحميمية في كل الأنحاء"؟