هل 2024 بداية نهاية "القرن الصيني"؟
مركزية سياسية أكبر... ونمو اقتصادي أقل
هل 2024 بداية نهاية "القرن الصيني"؟
يطلق الصينيون على عام 2023 اسم "العام صفر" في سياق الصين ما بعد فيروس كورونا، وفيه واجهت البلاد مشهدا اقتصاديا وأمنيا متغيرا جذريا؛ فبعد أن أنهت الصين بشكل حاد السياسة الصارمة التي اتبعتها للقضاء على فيروس كورونا في ديسمبر/كانون الأول 2022، لم يتحقق الانتعاش الاقتصادي الصيني الموعود، ولم يُستأنف "المصنع العالمي" الذي كان مأمولا أن يقمع التضخم العالمي المستعر.
وبعد فترة راحة قصيرة، انخفضت الصادرات الصينية بشكل مستمر على مدار أشهر؛ وتوسع صافي تدفقات رأس المال الأجنبي إلى عشرات المليارات من الدولارات شهريا، وهو رقم قياسي لسنوات عدة. وبدلا من جنون الاستهلاك، الذي كان سيجعل الصين أكبر مستورد في العالم بحلول عام 2025، بحسب الخط البياني الذي كانت مجموعة بوسطن الاستشارية قد رسمته قبل فيروس كورونا، فإن الاستهلاك الصيني بدأ يتحول الآن نحو الانكماش.
لقد غرقت الأسهم والأصول المالية في دوامة انخفاض قيمة العملة عام 2023، وهبطت بورصة شنغهاي الرئيسة بنسبة 20 في المئة تقريبا منذ بداية العام، فيما خسر مؤشر هونغ كونغ القياسي، وهو مقياس القوة المالية العالمية للصين، ما يقرب من 40 في المئة من قيمته منذ ذروته خلال "كوفيد-19". وأزمة العقارات في الصين على أشدها في المدن الأفقر، وهي ليست مثالية أيضا في المدن الأكثر حيوية التي تعاني بدورها من تباطؤ الطلب. وتتوقع مدينة شينزين أن تكون المعاملات العقارية أقل بنسبة 30 في المئة مقارنة بقيمتها عام 2021.
وكان لأزمة قطاع العقارات في الصين تداعيات كبيرة، حيث أثرت بشكل خاص على صناعة الظل المصرفية. ويتجلى هذا التأثير في الصراعات المالية التي تواجهها مجموعة "تشونغزي"، أكبر شركة ائتمانية في الصين، والتي دفعتها نحو الإفلاس المالي بسبب أخطار الائتمان العقاري. واضطرت الحكومات المحلية، التي تعتمد بشكل كبير على العقارات، إلى طلب الإنقاذ من الحكومة المركزية. وعلى الرغم من الجهود الحكومية الحثيثة لتحقيق الاستقرار في سوق العقارات، فقد تبددت ثقة المستهلك في الإسكان باعتباره فئة استثمارية لزيادة قيمته، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدل الادخار في الصين إلى مستويات غير مسبوقة وإلى تدفق المستهلكين على اكتناز الذهب.
تحولات 2023
يمثل عام 2023 نقطة تحول في رحلة الصين كقوة اقتصادية عالمية، إذ انخفضت مساهمة الدولة في الاقتصاد العالمي من حوالي 18 في المئة عام 2022 إلى ما يقدر بنحو 15 في المئة عام 2023.
في عام 2023، استمرت ديناميكية العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في كونها عاملا محوريا في الجغرافيا السياسية العالمية
وقد أدى هذا الانخفاض- إلى جانب ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة، وارتفاع الدولار مقابل العملات الأخرى- إلى اتساع الفجوة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين لأول مرة منذ مطلع هذا القرن. وعلى الرغم من أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الصين عام 2023 يظل متقدما قليلا على الولايات المتحدة، فإن التكافؤ المطلوب مع الاقتصاد الأميركي، والذي كان متوقعا بحلول عام 2035، بات الآن هدفا أبعد. ومع تحقيق بلدان نامية أخرى آفاق نمو اقتصادي أقوى، وبخاصة الهند ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، لم تعد الصين المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي العالمي كما كانت على مدى العقدين الماضيين.
وفي عام 2023، استمرت ديناميكية العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في كونها عاملا محوريا في الجغرافيا السياسية العالمية. وفي منطقة المحيط الهادئ الهندية، قامت الولايات المتحدة بتنسيق اتفاق كامب ديفيد، وهو اتفاق أمني ثلاثي يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، بينما كانت بكين توسع نفوذها الجيوسياسي من خلال دمج المملكة العربية السعودية في منظمة شنغهاي للتعاون، وبالتالي توسيع نطاق نفوذها في السياسة والأمن في شرق أوراسيا. وكان التطور المهم هو كشف الصين عن خريطتها المعيارية، التي ضمت بكل وضوح بحر الصين الجنوبي بالكامل تقريبا والمناطق المتنازع عليها على طول الحدود بين الصين والهند، الأمر الذي أثار اعتراضات قوية من جانب الدول المجاورة. وتصاعدت التوترات مع قيام القوات البحرية والجوية الصينية بمناورات متقاربة بشكل خطير مع الأصول العسكرية الأميركية والفلبينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يهدد بزيادة خطر نشوب صراعات غير مقصودة.
وحول قضية تايوان، كان ثمة تكهنات واسعة داخل المؤسسة الأمنية الأميركية حول إمكانية قيام الصين بهجوم عسكري ضد الجزيرة بحلول عام 2027 أو 2035. ومع ذلك، خلال الاجتماع الأخير بين الرئيس جو بايدن والرئيس شي جين بينغ في سان فرانسيسكو، نفى الأخير صراحة هذه التكهنات وأنكر وجود أي خطط ثابتة لضم تايوان عسكريا، معربا عن إحباطه الواضح من الطبيعة التبسيطية للسياسات الأميركية.
وفي الشرق الأوسط، ساعدت الصين بشكل مفاجئ، ولكنه حاسم، بالتوسط في التقارب السعودي الإيراني، مما يدل على تزايد نفوذها الأمني الإقليمي، بينما انقطعت جهود الولايات المتحدة للتوسط في العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بسبب اندلاع الحرب في غزة.
وفي عام 2023، أطلقت الولايات المتحدة الإطار الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ (IPEF) مع 13 دولة في منطقة المحيط الهادئ، ووضعته كإحياء للشراكة الأميركية عبر المحيط الهادئ، بهدف تحويل سلاسل التوريد الأميركية المهمة بعيدا عن الصين، في محاولة لتحجيم نفوذها التجاري والصناعي في المنطقة. وفي خطوة مضادة، قادت بكين عملية توسيع مجموعة البريكس، فدعت الاقتصادات الناشئة الرئيسة من أفريقيا، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط للانضمام إلى المجموعة. وإذا كان ثمة ما تعبر عنه هذه التوسعة فهو الاستياء الجماعي من مؤسسات "بريتون وودز" والتحذير من احتمال إساءة استخدام الدولار، مما يشير إلى طموح لإنشاء هياكل مالية واقتصادية بديلة مناسبة للعالم النامي.
وفي الوقت نفسه، في حين استضافت الولايات المتحدة قمتها الثانية للديمقراطية العالمية، مؤكدة التزامها بإطار أمني عالمي قائم على القيم الديمقراطية، شرعت الصين في سلوك مسار دبلوماسي مختلف، حين استضافت قادة من سوريا وإيران وفلسطين وأفغانستان (بقيادة طالبان) وفنزويلا، ما عزز سلسلة من الشراكات الاستراتيجية التي سلطت الضوء على ميل بكين لبناء تحالفات خارج المجال الغربي التقليدي. وأظهرت هذه الخطوة استراتيجية الصين المتمثلة في توسيع نفوذها العالمي من خلال العلاقات الدولية المتنوعة.
وفي عام 2023، قلصت الصين بشكل ملحوظ استثماراتها في البنية التحتية العالمية، ويرجع ذلك إلى حد كبير للقيود المفروضة على القدرات. وبلغ إجمالي الإنفاق في إطار مبادرة الحزام والطريق للأعوام 2021-2022 نحو 2.2 مليار دولار فقط، وهو تراجع كبير عن الأرقام التي بلغت تريليون دولار من الاستثمارات التي جرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن على الرغم من هذا التخفيض في الإنفاق على البنية التحتية، فقد عززت الصين استثماراتها في الطاقة الخضراء في جميع أنحاء البلدان النامية، في تحول يرفع من المكانة الرائدة التي تحتلها الصين في سلاسل التوريد للألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، وبطاريات الليثيوم.
ويأتي هذا التغيير في استراتيجية الاستثمار في وقت كان خبراء الاقتصاد والخبراء الجيوسياسيون الغربيون يبشرون في كثير من الأحيان بالقرن الحادي والعشرين باعتباره "القرن الصيني"، فهل انعكس الحال، بحيث يكون عام 2024 بداية نهاية "القرن الصيني"؟
اقتصاد 2024: مرحلة انتقالية
بدأ صعود الصين العالمي وسيظل مدفوعا بقوتها الاقتصادية المتنامية، لذلك رأينا الصين في الأيام الأخيرة من عام 2023 وهي تضخ جرعة كبيرة من السيولة في قطاع العقارات المتعثر، والغارق في العجز عن سداد الديون، محليا ودوليا. والدولة مستعدة للقيام بكل ما في وسعها لوقف انتقال عدوى أزمة العقارات إلى قطاع الاقتصاد الأوسع. ويمكن القول إن جرعة كبيرة من الإنقاذ المالي هي كل ما كانت الصين في حاجة إليه لفترة طويلة.
لعل وجود خطة إنقاذ مالي شبيهة بنهج الحكومة الأميركية في أعقاب الأزمة المالية العالمية يمكنها أن تنقذ الاقتصاد الصيني من حالة الركود التي تصيبه
ولعل وجود خطة إنقاذ مالي شبيهة بنهج الحكومة الأميركية في أعقاب الأزمة المالية العالمية يمكنها أن تنقذ الاقتصاد الصيني من حالة الركود التي تصيبه. بيد أن الأمر الأكثر أهمية من التحفيز هو ضرورة أن تحدد بكين محركا جديدا للنمو من أجل ضمان استمرارية صعودها الاقتصادي العالمي، إذ إن نموذج النمو الاقتصادي القائم على الاستثمار لم يعد مستداما، ولا بد أن تكون المرحلة التالية من النمو في الصين مدفوعة بالإبداع وأن تكون مستوحاة من مبادئ الاستدامة.
وفي سعيها نحو اقتصاد قائم على الابتكار، تجد الصين نفسها عرضة بشكل خاص للعقوبات التي تقود فرضها الولايات المتحدة على قطاع التكنولوجيا؛ حيث إن العقوبات الغربية المفروضة على قدرة الصين أثرت على الوصول إلى سلاسل توريد التكنولوجيا المتقدمة بشكل كبير، وتسببت في دمار فوري لبعض القطاعات؛ حيث قامت شركة "علي بابا كلاود" مثلا بإلغاء خطط الاكتتاب العام بسبب الاضطرابات الشديدة التي أصابتها نتيجة عدم قدرتها على الوصول إلى الرقائق التكنولوجية المتقدمة. ومع ذلك، لم يحدث عبر التاريخ أن عُزلت التكنولوجيا عن منطقة جغرافية واحدة بشكل دائم، إذ إن نشر التكنولوجيا على مستوى العالم يشكل تحديا لجميع جهود التدخل الحكومي، ويظل الوقت هو المتغير الوحيد.
ومع تزايد الانفصال في التكنولوجيا وتدفق الاستثمار في الاتجاهين بين الولايات المتحدة والصين، من المتوقع أن تحل صناديق الثروة السيادية في منطقة الشرق الأوسط بدرجة كبيرة محل بعض من رؤوس الأموال الأميركية التي كانت ملتزمة سابقا بالاستثمار في التكنولوجيا الصينية في مراحلها المبكرة. وستطبق المنتجات عالية التقنية لهذه الاستثمارات بدورها في منطقة الشرق الأوسط لدعم تحولها المستدام إلى الاقتصاد الرقمي الحديث.
وتوقع نيكولاس أغوزين، الرئيس التنفيذي لشركة هونغ كونغ للبورصة والمقاصة، أن تتضاعف قيمة صناديق الثروة السيادية الخليجية خلال العقد الحالي إلى 10 تريليونات دولار، ومن المتوقع أن يتم استثمار ما بين 10 إلى 20 في المئة من هذه القيمة في السوق الصينية. ويترجم ذلك إلى إعادة تخصيص ما بين تريليون إلى تريليوني دولار من رأس المال للسوق الصينية خلال العقد الحالي. وبالفعل، يظهر وجود رأس المال الخليجي في 67 سهما مُدرجا في بورصة شنغهاي عام 2023.
كما ساهمت القيود الغربية المفروضة على التكنولوجيا الصينية في تحفيز الصين على تسريع وتيرة وحجم استثماراتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا الأساسية. وتعتمد الصين على استقطاب المواهب العالمية لدعم طموحاتها العالمية في هذا السياق. ويُعتبر إطلاق شركة "هواوي" لهواتف الجيل الخامس خير شهادة على نجاح استراتيجية الصين في جذب المواهب العالمية.
وفي عام 2024، سيكون الاقتصاد الصيني في مرحلة الشفق، حيث سيعتمد على محرك النمو التقليدي لاستعادة ثقة السوق بينما يعمل على تنمية المحرك الجديد.
أصبح العقد الاجتماعي الدقيق الذي أقرته الصين الشيوعية- الازدهار الاقتصادي مقابل الطاعة الاجتماعية- موضع شك مع تباطؤ النمو الاقتصادي، وهبوط أسعار العقارات، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى ما يتجاوز 20 في المئة
محيط هادئ ذو تيارات قوية
في أعقاب تولي الرئيس شي لرئاسة الصين للمرة الثالثة، محطما بذلك رقما قياسيا، تركزت السلطة السياسية الصينية بشكل أكبر في نواة الحزب الشيوعي، وتحديدا، بأيدي شي والمقربين منه. وساهمت عملية تركيز السلطة في تقليل تأثير الفصائل الحزبية، وهو أمر كفيل بزعزعة الاستقرار المتأصل في بنية أي قوة أحادية القطب، وهو ما يعني حدوث شرخ من الداخل.
وفي خريف عام 2023، اختفى وزير الخارجية الصيني السابق تشين جانغ، ووزير الدفاع لي شانغ فو، وكلاهما من عباقرة الرئيس الصيني شي جين بينغ، اختفيا من الوظيفة العامة، وعُزلا بعد أسابيع من منصبيهما البارزين. وعاد وزير الأمن القومي الصيني ووزير الخارجية السابق وانغ يي إلى منصبه كوزير لخارجية الصين، بينما لا يزال منصب وزير الدفاع الصيني، وهو منصب وزاري بالغ الأهمية، فارغا بانتظار تعيين شخص جديد على رأسه.
وبالإضافة إلى التعديلات الوزارية، شهدت قوة الصواريخ الصينية، التي تعتبر القوة العسكرية المسؤولة عن إدارة ترسانة الصواريخ الصينية، تغييرات في المستويات القيادية، في محاولة واضحة لتعزيز الوحدة داخل المؤسسة العسكرية الصينية وتعزيز الاستعداد العسكري للصراعات المحتملة. وسيستغرق تحقيق التماسك الداخلي للجيش الصيني بين كبار الضباط المعينين حديثا بعض الوقت. وفي الوقت الحالي، لا يشير الوضع إلى احتمالية كبيرة لحدوث نزاع عسكري حول تايوان.
وعلى مدى عقود، ركزت العلوم السياسية الصينية، بشكل افتراضي، على سياسات النخبة، نظرا للنظام الاجتماعي الضخم الذي بني خلال العقود الثلاثة الماضية. ويعدّ تجاهل دور الشعب في العصر الحالي خطأ كبيرا؛ فعلى سبيل المثال، حفزت حركة "الورقة البيضاء"، التي اندلعت في شنغهاي وامتدت إلى جميع أنحاء الصين أواخر عام 2022، الحكومة على التراجع بشدة عن سياستها الصارمة في القضاء على فيروس كورونا. وكان هذا التحرك العلني ضد النظام السياسي غير مسبوق في الصين منذ عام 1989.
وأصبح العقد الاجتماعي الدقيق الذي أقرته الصين الشيوعية- الازدهار الاقتصادي مقابل الطاعة الاجتماعية- موضع شك مع تباطؤ النمو الاقتصادي، وهبوط أسعار العقارات، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى ما يتجاوز 20 في المئة.
وفي عام 2023، أبدى الشباب الصينيون استياءهم من المستقبل الاقتصادي الغامض، من خلال أزياء الهالوين المعبرة التي ارتدوها في شنغهاي. وفي ذكراها السنوية الأولى، عادت احتجاجات "الورقة البيضاء" إلى الظهور في شنغهاي ومدن صينية أخرى.
وفي عام 2024، ستتمثل المهمة البارزة للقيادة الصينية في استعادة العقد الاجتماعي وتعزيز الفرص الاقتصادية داخل البلاد. وكما قال الرئيس شي: "التنمية هي الضمان للأمن"؛ فالاقتصاد نفسه أمر سياسي.
وفي عام 2024، في ظل نظام سياسي هادئ ظاهريا في الصين، ستكون هناك تيارات خفية أقوى، وإن لم تكن جميعها واضحة للعيان.
ربما يكون 2024 عاما لدمج النزاعات الإقليمية التي تم احتواؤها ضمن سيمفونية أكبر للسلام على مستوى عالمي. وربما يكون عاما تستمر فيه آسيا ككل في قيادة النمو العالمي
ورقة ترمب
كان بيان الرئيس شي في اجتماع سان فرانسيسكو مباشرا وواضحا، حيث أكد أنه بالنسبة للصين والولايات المتحدة "فإن الانفصال أمر لا يمكن تصوره؛ وإرغام كل منهما الآخر على التغيير أمر غير واقعي؛ وتكلفة المواجهة لا تطاق".
وهذا يدحض بشكل مباشر الإطار الذي وضعته إدارة بايدن للعلاقات بين أميركا والصين بوصفها منافسة شرسة. وذكر شي كذلك أن "المنافسة لا ينبغي أن تكون توجه العصر الحديث".
إنه على حق؛ إذ لا ينبغي لأي نظام عالمي حديث أن يرتكز على مبادئ قانون الطبيعة؛ حيث يتنافس الفرد مع الآخر ويتنافس الجميع مع الجميع. ولا بد أن يكون التعاون، لا المنافسة، هو الاتجاه السائد في القرن الواحد والعشرين.
تعتبر الصين أكبر مستورد للطعام والطاقة في العالم. إنها مصنع العالم، وهي تحتاج إلى سوق عالمية قوية للازدهار. ويجب أن تعتمد الولايات المتحدة أيضا على سلسلة القيمة العالمية إذ يعتمد اقتصادها بنسبة 80 في المئة على الاستهلاك، حيث يقوم المستهلكون بتحصيل السلع والخدمات من الأسواق العالمية. وبالتالي ستستمر المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في التجلي في جميع المناطق حول العالم، بدءا من الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وصولا إلى أميركا اللاتينية.
ولن تحمل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2024 أي تغيير كبير في سياساتها تجاه الصين؛ إذ أصبحت السيطرة على تصدير التكنولوجيا، وقيود الاستثمار ثنائية الاتجاه، والرسوم الجمركية راسخة بعمق في التوافق السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، يمكن أن يحمل فوز دونالد ترمب المحتمل عام 2024 تغييرا واحدا؛ إذ من المرجح جدا أن يؤدي إلى تدمير التحالف الديمقراطي في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ والذي أمنته إدارة بايدن. لنفترض أن هولندا بدأت في متابعة سياساتها الاقتصادية والأمنية المستقلة مع الصين؛ فقد تقوم شركة "إي إس إم إل" الهولندية بتوريد أحدث آلات النقش الضوئي في العالم إلى الصين، مما يجعل طموحاتها التكنولوجية العالمية أكثر قابلية للتحقيق. وإذا بدأت المعاهدة الأمنية الثلاثية لشرق آسيا بالضعف، نتيجة لغرائز ترمب الانعزالية، فإن الصين سترحب بفترة راحة أمنية في غرب المحيط الهادئ. كما أن المرشح الرئاسي ترمب يزعم أيضا أنه سينسحب من الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ الذي أوشكت إدارة بايدن على استكماله، مما سيترك سلسلة التوريد في المحيطين الهندي والهادئ مفتوحة لمزيد من التغلغل الصيني.
ومع ذلك، من المرجح أن تؤدي سياسة ترمب الانعزالية إلى تعزيز التفوق أحادي الجانب للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، مما يترك جميع الدول، بما في ذلك الصين، في موقف اقتصادي ضعيف في مواجهة الولايات المتحدة.
ومن المرجح أن تعاني الاقتصادات الغربية من سياسات الحماية التجارية التي تنتهجها الولايات المتحدة. وسيُحرَم العالم الناشئ من استثمارات الولايات المتحدة بشكل أكبر في ظل تركيزها على بناء البنية التحتية المحلية، وستصبح التطلعات العالمية نحو الانتقال إلى الطاقة الخضراء طي النسيان.
وسيساهم فوز ترمب المحتمل في حل تناقضات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ فبدلا من فرض الديمقراطية وحقوق مجتمع المثليين كجزء أساسي من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن انخراط الولايات المتحدة في المنطقة سيكون مدفوعا مرة أخرى بالواقعية. وستُصوّر المملكة العربية السعودية، التي وصفها الرئيس بايدن بأنها دولة منبوذة، على أنها قوة جيوسياسية إقليمية وعالمية مهمة.
وفي شرق آسيا، قد لا تكون المخاطر العالية للنزاعات في تايوان وإنما في بحر الصين الجنوبي أو على شبه الجزيرة الكورية. ويمكن حدوث اشتباكات محتملة على الحدود الصينية الهندية أو في المياه الصينية الفلبينية دون سابق إنذار.
ربما يكون 2024 عاما لدمج النزاعات الإقليمية التي تم احتواؤها ضمن سيمفونية أكبر للسلام على مستوى عالمي. وربما يكون عاما تستمر فيه آسيا ككل في قيادة النمو العالمي، مع مضاعفة الولايات المتحدة والصين للاستثمارات الإقليمية. وربما تستمر أجزاء أخرى من العالم النامي، وبخاصة أفريقيا، في المعاناة من نقص الاستثمار وتدفق التكنولوجيا من الاقتصادات المتقدمة. ربما يكون عام 2024 عام السلام النسبي والازدهار العالمي المتواضع.