"الحرية الأكاديمية" وحدودها السياسية في أميركاhttps://www.majalla.com/node/307761/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7
صدر كتاب "ما هي الحرية الأكاديمية؟ قرن من الحوارات، من 1915 حتى اليوم" لدانيال غوردون، أستاذ التاريخ في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأميركية، عن "دار روتليدج" العريقة (2023). يدرسُ غوردون في هذا الكتاب الغنيّ تاريخ الحوارات والنقاشات الأكاديمية، منذ أوائل القرن الماضي أي منذ 1915 حتى وقتنا الحاضر، ويتعمق في المعنى الحقيقي للحرية الأكاديمية، وارتباطها الوثيق بمسألة النشاط السياسي ضمن الحرم الجامعي.
صدرت لغوردون سابقا كتب عدة متميّزة أهمها "مواطنون بلا سيادة: المساواة والتواصل الاجتماعي في الفكر الفرنسي، 1670-1789" عن منشورات جامعة برينستون (1994). وقد حرَّرَ غوردون أيضا "كتاب ألكسي دو توكفيل" (2019) الصادر عن منشورات "أنثيم برس".
الإنسان الأكاديمي
لقد تغير مفهوم الحرية الأكاديمية خلال قرن من الزمن. ولكن من هو الإنسان الأكاديمي homo academicus؟ ما الذي يميز النشاط الأكاديمي عن غيره من الأنشطة؟ وكيف نرسم الخط الفاصل بين البحث الأكاديمي والنشاط السياسي؟ وما الفرق بين الحرية الأكاديمية وحرية التعبير؟
الطريقة الأهم لاختبار مدى صحة "المفاهيم الديموقراطية البورجوازية" مثل حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الفكر هي اختبار تطبيقها على الشعوب المقموعة
يدرس غوردون آراء كبار المفكرين في موضوع الحرية الأكاديمية، من آرثر لوفجوي إلى أنجيلا ديفيس وألكسندر ميكليجون وإدوارد سعيد، وغيرهم كثير من المفكرين البارزين. ويطرح مجموعة من الأسئلة الملحّة اليوم مثل: ما العلاقة بين حرية التعبير والحرية الأكاديمية؟ وهل ينبغي السماح للشيوعيين بالتدريس في الجامعات؟ وما هو "التلقين العقائدي" السياسي غير المقبول في الفصول الدراسية؟ وما الآثار المترتبة على الحرية الأكاديمية في إنشاء أقسام دراسات السود ودراسات المرأة؟ وهل تنتهك المقاطعة الأكاديمية، مثل المقاطعة الموجهة ضد إسرائيل، روح الحرية الأكاديمية؟
يبدأ غوردون الفصل الأول وهو بعنوان "طرد أنجيلا ديفيس"، بحكاية الأستاذة الجامعية التي حمى القانون حقها في حرية التعبير في عام 1969، لكنه لم يحمِها من حكم مجلس الأمناء بأن تصريحاتها حول الحرية الأكاديمية تجعلها لا تصلح لأن تكون أستاذة جامعية.
وقد أوضحت ديفيس في خطاباتها أن الحرية الأكاديمية هي الحق في المشاركة في النضالات السياسية داخل الحرم الجامعي. ووصفت ديفيس الأكاديميين الذين لا ينخرطون في النضالات التقدمية بأنهم لا يتمتعون بالحرية الأكاديمية. وقالت في بيان صحافي: "السبب الوحيد الذي ذكروه لنيتهم طردي هو عضويتي في الحزب الشيوعي. ولم يشكّكوا في إمكاناتي أو في مؤهلاتي الأكاديمية أو في قدرتي على التدريس". وأكدت ديفيس أن الطريقة الأهم لاختبار مدى صحة "المفاهيم الديموقراطية البورجوازية" مثل حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الفكر هي اختبار تطبيقها على الشعوب المقموعة.
ميكليجون المستبد؟
ينتقل غوردون في الفصل الثاني بعنوان "ميكليجون المستبد" إلى توضيح المفارقة الكبرى في آراء الفيلسوف الأميركي والمدافع الكبير عن حرية التعبير ألكسندر ميكليجون، الذي استعملت آراؤه في القضية الشهيرة بين صحيفة "نيويورك تايمز" وسوليفان في عام 1964، لإنصاف الجريدة ضد مفوض الشرطة بولاية ألاباما.
ميكليجون الذي فُصل يوما بسبب آرائه التقدمية من كلية أمهرست ثم من جامعة ويسكونسن، كان يعتقد أن الخطاب السياسي لا يمكن قمعه أبدا، وفي الوقت نفسه كانت آراؤه حول الحرية الأكاديمية والتعليم الليبيرالي مناهضة لليبيرالية، حيث وجد أن الجامعات الأميركية ليست مكانا مخصصا لحرية التعبير، متأثرا بجان جاك رسو في التربية، بل هي الساحة التي يفترض فيها تدريب الطلبة ليكونوا مواطنين صالحين ديموقراطيين مستنيرين، ولا ينبغي تدريبهم على كيفية التحدث بحرية، بل التحدث بذكاء ومعرفة وعقلانية حول المسائل السياسية الشائكة.
ينتقل غوردون في الفصل الثالث إلى التلقين العقائدي متسائلا عن معناه الحقيقي في الفصول الدراسية، وهل يحق للأستاذ تحويل الفصل الدراسي إلى منتدى للنشاط السياسي؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها في صلب النقاشات الأكاديمية والقانونية منذ تأسيس الجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات في عام 1915 حتى الوقت الحاضر. فقد حذّر مؤسسو الجمعية الأساتذة من التلقين في الفصول الدراسية ووضعوا ما يمكن تسميته بتعبير غوردون "العقيدة المناهضة للسياسة".
يرى غوردون الذي يوضح أن صلب ما أراده فيبر ليس نفي الأخلاق، بل عدم الإيحاء بأن الخيارات الأخلاقية والسياسية محدّدة سلفا، لأن هذا من شأنه سَلْبَ فكرة الحرية من البشر
درس ماكس فيبر العلاقة بين الدراسات الأكاديمية والالتزام السياسي. وكان من داعمي "العقيدة المناهضة للسياسة". ورأى فيبر في أحد خطاباته بعنوان "العلم كمهنة": "أن اتخاذ موقف سياسي عملي شيء، وتحليل الهياكل السياسية والمواقف الحزبية شيء آخر". فليس هناك لدى فيبر "أخلاق كونية، بل نزاهة مهنية" كما يرى غوردون الذي يوضح أن صلب ما أراده فيبر ليس نفي الأخلاق، بل عدم الإيحاء بأن الخيارات الأخلاقية والسياسية محدّدة سلفا، لأن هذا من شأنه سَلْبَ فكرة الحرية من البشر.
ينتقل غوردون إلى الفيلسوف الأميركي آرثر لوفجوي، الذي كان في عشرينات القرن الماضي رئيس الجمعية الفلسفية الأميركية، والذي رأى حينها أن الفيلسوف ليس الشخص الذي يلقّن الآخرين ويَعِظُهُم، وأن الفلسفة لم تعد تقوم على الإجماع المطلق، بل مقارنة الإجابات المختلفة عن سؤال معين، ووظيفة الأستاذ، ويتفق هنا مع فيبر، ليست "تنوير" الآخرين، بل تعريفهم بوجهات النظر المتعددة الخاصة بمشكلة معينة.
دراسات السود والمرأة وما بعد الحداثة
في مرحلة ما بعد الستينات لم تعد مسألة الحرية الأكاديمية متعلقة بالحقل الأكاديمي والسياسة، بل بتوسيع معنى الحرية نفسها وخاصة بالنسبة إلى الأقليات، وهنا نشأت دراسات السود، حيث تأسس أول برنامج جامعي لمدة سنتين لهذه الدراسات في كلية ميريت في الجامعة الحكومية في أوكلاند عام 1968. وانتشرت في ما بعد هذه البرامج في الجامعات الأميركية لتضم أقساما لدراسات الأميركيين ذوي الأصول المكسيكية ودراسات المرأة والدراسات النسوية.
ينتقل غودرون إلى فلسفة ما بعد الحداثة ومساهمتها الأساسية في مفهوم الحرية الأكاديمية، منطلقا من رأي ميشال فوكو الذي أصرّ على أن الخطاب الأكاديمي هو خطاب سياسي في جوهره. فالسياسة عند فيبر ولوفجوي هي الأحزاب السياسية والصراع السياسي، لكن فوكو يرى أن "الخطابات" الأكاديمية عبارة عن "أنظمة" تنظم علاقات "السلطة"، مما منح المسألة طريقة مبتكرة لتحليلها ووجهة نظر أعمق. لم يتمسك فوكو بفكرة الحرية الأكاديمية، بل حلل المضامين اللاواعية التي تتضمّنها الخطابات الأكاديمية وفكرة المناصرة السياسية في الفصول الدراسية.
يغطي الفصل الرابع بعنوان "التائبون البارزون، من التسعينات حتى الوقت الحاضر"، الاستقطاب الكبير الذي ميّز النقاشات الأكاديمية في القرن الحادي والعشرين والعداء بين موقف اليمين الذي يرفض النشاط السياسي في الحرم الجامعي، واليسار الذي يقف مع النشاط السياسي، ويرى غوردون أن التجربة الشخصية في الردّة عن المعتقدات القديمة لدى بعض الأكاديميين هي التي غذّت هذا الاستقطاب. فقد حاول بعض هؤلاء الأكاديميين تطهير أنفسهم من وجهات نظرهم الماضية، وساهموا في تشكيل خطاب الإدانة الذي هيمن على الحياة الأكاديمية الأميركية.
شرعة الحقوق الأكاديمية
كان ديفيد هورويتز من أبرز مفكري اليسار الجديد في الستينات والسبعينات، وفي 1969 أنجز كتابه "الشركات والحرب الباردة" الذي يتحدّث عن أيديولوجيا الشركات في السيطرة على المجال السياسي. لكن هورويتز نفسه تحوّل إلى أقصى اليمين في أوائل الثمانينات، وبلغ ذروة تحوّله في مذكراته، "الابن الراديكالي"، في 1996 التي قال فيها: "يمكنك العثور على عدد من الماركسيين في الجامعات الأميركية يفوق الكتلة الشيوعية بأكملها... لقد أصبحت السياسة الراديكالية هي العملة الفكرية للفكر الأكاديمي". وقاد في عام 2003 حملة لإقناع المشرّعين بتطبيق "شرعة الحقوق الأكاديمية" لحماية الطلبة من الأساتذة الذين يمارسون التلقين العقائدي عليهم.
فصَلَتْ جامعة كولورادو عام 2007 البروفسور وارد تشرشل، الأستاذ الدائم ورئيس قسم الدراسات العرقية في الجامعة، بعد اتهامه بالسرقة الأدبية والانتحال في كتابات تزعم أن حكومة الولايات المتحدة كانت متواطئة في الإبادة الجماعية للأميركيين الأصليين. لم يحدّد أحدٌ بدقة خلال النقاشات التي دارت حول هذا القضية مقدار الانتحال في دراسات تشرشل، ولم يتحدث أحد عن حريته في التعبير والحرية الأكاديمية، بل أصبحت قضيته مادة دسمة للنقاشات الإيديولوجية، واستغلّها هورويتز بالطبع. فهل استُهدفَ تشرشل بسبب عرقه أو انتمائه السياسي، أم بسبب إثارته فضيحة إصابة السكان الأصليين بالجدري عمدا بتواطؤ من حكومة الولايات المتحدة؟ مثّلتْ هذه القضية مؤشرا واضحا إلى تدهور معايير الحوار والنقاش حول الحرية الأكاديمية في هذا العصر، وبين الاستئناف الذي برأه وأعاده إلى عمله والاستئناف المضاد لصالح الجامعة بين عامي 2009 و2012، رفضت المحكمة العليا في النهاية القضية تماما.
يتابع غوردون الغوص في مسألة "شرعة الحرية الأكاديمية" ومحاولة تمرير هذا التشريع وكيف تحولت جلسات الاستماع لتمريره إلى سوق للأفكار والأفكار المضادة التي اتسمت بالمبالغة من كل الأطراف.
كاري نيلسون والذبذبة الفكرية
ينتقل كاري نيلسون، رئيس الجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات بين عامي 2006 و2012 من مناهضة "شرعة الحرية الأكاديمية" التي اقترحها ديفيد هورويتز إلى مناهضة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). فقد رأى سابقا أن النشاط السياسي للأساتذة في حقول دراسات المرأة، ودراسات ما بعد الاستعمار، وغيرها من المجالات الراديكالية السياسية يتوافق مع الإجماع السائد في كل تخصّص من هذه التخصصات. أما الآن وبعدما تحوّل إلى واحد من أبرز مناهضي حركة المقاطعة في الولايات المتحدة، فيرى أن المناهضة المتشددة للصهيونية قد "أفسدت" الأنظمة والقوانين والمثل نفسها التي كان يدافع عنها.
دعا إدوارد سعيد إلى الفصل الدراسي غير المسيَّس، وأقرّ بأنه لا بد من الحفاظ على انفتاح الجامعات الأميركية
ينهي غوردون الفصل باستعراضه قضية المحاضر الأميركي ستيفن سلايطة الذي يتحدر من أصول عربية والذي رُفض تعيينه في قسم الدراسات الأميركية للسكان الأصليين في جامعة إيلينوي في عام 2014 بسبب تغريداته المناهضة للسياسة الإسرائيلية أثناء حرب غزة في العام نفسه. ودور نيسلون نفسه في التعليق مهاجما سلايطة، حتى بعد ترك الأول رئاسة الجمعية. لا حاجة برأي نيلسون لفرض القيود على النشاط السياسي ودعوات المناصرة إذا ما كانت ضد الرأسمالية والعنصرية، ويصبح الفصل الدراسي فريسة للتسييس في رأيه عندما يستهدف النشاط السياسي إسرائيل.
متلازمة المقاطعة
يتتبّع الفصل الخامس بعنوان "إسرائيل وحركة المقاطعة والحرية الأكاديمية" حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) ضد إسرائيل التي بدأت في عام 2004، وتحولت إلى قوة رئيسة في الجامعات الأميركية عندما أقرّتها جمعية الدراسات الأمريكية في عام 2014. وقد روَّجَ مؤيدو الحركة منذ ذلك الحين مجموعة من حملات المقاطعة شملت إغلاق برامج الدراسة في الخارج في إسرائيل، مما تصادم مباشرة مع مفهوم الحرية الأكاديمية.
كانت ردود الفعل على حركة المقاطعة عبارة عن محاكاة متتالية من المقاطعة للمقاطعين، تجلّت في قوانين مكافحة حركة المقاطعة التي طبقت في 35 ولاية أميركية، وكانت النتيجة هي "متلازمة المقاطعة" التي امتدّت عبر الأوساط الأكاديمية.
تروّج الحركة لمقاطعة إسرائيل باعتبارها النموذج المزعوم للظلم العالمي، ويدافع مقاطعو المقاطعة ومنهم نيسلون بالذات، والجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات، عن مفهوم الجامعة بوصفها مكانا يدعم التبادل الأكاديمي والسعي الجماعي للمعرفة بوصفها الهدف الأسمى. ويضيع مفهوم الحرية الأكاديمية نفسه بين وجهات النظر التي تختلف على تعريفها وأولويتها.
الخلاصة عند إدوارد سعيد
يقرر غوردون في الفصل السادس بدلا من وضع خلاصة عامة لبحثه، التركيز على إدوارد سعيد الذي تتخطّى أفكاره الثاقبة حول الحرية الأكاديمية التصنيفات السهلة والإجابات الجاهزة. جاء عنوان الفصل على الشكل الآتي: "بدلا من الخلاصة: خطاب غير منشور لإدوارد سعيد حول الحرية الأكاديمية".
يتحدث سعيد في هذا المقال عن المقارنة بين الفيلسوف والأستاذ الجامعي ستانلي فيش والمفكرة المعروفة جوديث بتلر، حيث يرى فيش نشاط بتلر بوصفها مثالا جوهريا للمفكر الذي يرفض التمييز بين البحث الأكاديمي والتحريض السياسي. وإذا لم نفصل بين هذا وذاك، في رأي فيش، فلا شيء يمنع السلطة التشريعية في دولة ديموقراطية من السيطرة على الجامعة. ويرى سعيد أنه إذا ما أخذنا مفهوم فيش المحافظ هذا بجدية فسوف يختفي النشاط الداعي للعدالة الاجتماعية من الجامعات تماما.
يشرح سعيد، بتعاطف وتفهم شديد، سبب ميل النقاد الأدبيين اليساريين إلى نقل حاجتهم للمشاركة السياسية إلى الفصول الدراسية، وذلك بسبب تسمّم الفضاء العام الذي أصبح ينتهك حقوق الإنسان، خصوصا خلال فترة رئاسة بوش الابن، وما يسمى الحرب على الإرهاب. لكنه يفصّل لاحقا في سبب خطأ هذه الخطوة قائلا: "لا أعتقد شخصيا أن الفصل الدراسي أو الأكاديميا ككل ينبغي أن تغدو موقعا للتسوية الفورية أو شبه الفورية للمشاكل الاجتماعية والسياسية". لذلك يدعو سعيد إلى الفصل الدراسي غير المسيَّس، ويقرّ بأنه لا بد من الحفاظ على انفتاح الجامعات الأميركية. ولم يتفق مع نيسلون ورفاقه الذين رأوا أن الجامعات قد تحولت إلى ذراع للرأسمالية.