مروحية تابعة لـ "الحوثيين" تحلق فوق سفينة الشحن "غالاكسي ليدر" بينما يسير عناصر "حوثيون" على سطح السفينة في البحر الأحمر، في 20 نوفمبر 2023
برز دور الحوثيين مؤخرا في حرب غزة ليصبح مؤثرا بسرعة، بسبب قدرة هذه الجماعة المسلحة على اعتراض السفن التجارية المارة بمضيق باب المندب والمتجهة شمالا لترسو في الموانئ الإسرائيلية والمصرية أو تمر بمياههما الإقليمية في طريقها نحو أوروبا قادمة من آسيا.
قدرة الحوثيين على منع السفن من المرور بالمضيق أو إصابتها أو احتجازها محدودة عمليا، في ضوء تصاعد فعالية الحماية العسكرية الغربية للسفن المارة، لكنهم استطاعوا مع ذلك أن يحدثوا فارقا عالمي الطابع ويخطفوا الاهتمام، والإثارة أحيانا، ويسببوا الكثير من القلق؛ فعبر المضيق ذي الـ32 كيلومترا عرضا، الذي تستخدم منه 26 كيلومترا فقط للملاحة الدولية، عَطَّل الحوثيون الانسياب المعتاد لمرور السفن ببضائعها التي تشكل نحو 12 في المئة من التجارة العالمية، وأجبروا بعض شركات الملاحة على استخدام الطريق البحري الأطول والأقدم والأكثر كلفة (رأس الرجاء الصالح) في جنوب غربي أفريقيا للوصول إلى أوروبا، فيما ارتفعت أكثر من الضعف تكلفة التأمين على السفن التي واصلت استخدام المضيق.
هناك فوائد يحاول أن يجنيها الحوثيون من هذه المواجهة أكبر من خسائرهم فيها، لحد الآن. داخليا، يحاولون الحصول على تأييد لهم والرهان على تقوية موقفهم في مواجهة خصمهم (الحكومة الشرعية)، في الحرب الأهلية اليمنية التي تمر بهدنة طويلة الآن. فقد قام الحوثيون بتجنيد متطوعين في صفوف الميليشيات الذين "وُعدوا"، بحسب تقارير، بأنهم سيُرسلون للقتال في غزة. على الأغلب سيُنشر هؤلاء في الجبهات المتعددة ضد القوات الحكومية اليمنية المناوئة للحوثيين.
يحاول الحوثيون توظيف هجماتهم لدى شرائح في العالم العربي والظهور بمظهر "المتصدي" لإسرائيل رغم ضعف الإمكانيات
كما يراهن الحوثيون على تراجع السخط الشعبي الداخلي ضدهم بسبب اتهامات لهم بالفساد وسوء الإدارة، لصالح تأييدهم في استمرار خوض المواجهة الحالية، فضلا عن رهانهم على كسب "شرعية ثورية" أمام البعض ضد خصمهم، الحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دوليا. ولم تنتقد الحكومة الهجمات الحوثية، وأكدت أنها صاحبة السيادة الرسمية والشرعية في البلد وليس الحوثيون.
خارجيا، يحاول الحوثيون توظيف هجماتهم لدى شرائح في العالم العربي والظهور بمظهر "المتصدي" لإسرائيل رغم ضعف الإمكانيات، و"إحراج" أطراف كثيرة أمام الرأي العام المتعاطف مع المدنيين الفلسطينيين والحانق بشدة على إسرائيل وعلى أميركا الداعمة لها، مع أن دولا عربية وقفت بوضوح ضد الهجمات الإسرائيلية، وطالبت بـ"وقف فوري" لإطلاق النار ورفضت الدخول في ترتيبات القوة البحرية التي تم تشكيلها من ثلاثين دولة والتي أعلن عن تشكيلها وتقودها الولايات المتحدة لاعتراض الضربات الحوثية وحماية السفن المارة بالمضيق.
في السنوات الماضية اشتركت مصر، إلى جانب السعودية والإمارات، في التشكيلات البحرية المماثلة التي قادتها الولايات المتحدة ضد أعمال القرصنة والتهريب، وكثير منها أنشطة إيرانية وحوثية، كانت تتم في الممرات المائية نفسها، إضافة إلى الخليج العربي.
أي هجوم إسرائيلي ضد الحوثيين قد يعتبره بعض العرب عملا استفزازيا ويثير مخاطر جدية بتوسع النزاع
أميركيا، كان ثمة الكثير من الحذر في التعاطي مع الهجمات الحوثية، وتجنب التصعيد العسكري، وتفضيل الاحتواء الصارم المفضي تدريجيا إلى عودة حركة السفن إلى وتيرتها السابقة، على الرد الهجومي، خصوصا مع الإحساس الأميركي حينها بأن هذه الهجمات ستنتهي أوتوماتيكيا مع نهاية الحرب في غزة. تبدو هذه الاستراتيجية الأميركية فاشلة الآن، إذ لم يقد اعتراض الصواريخ والمسيرات الحوثية، إلى شعور شركات الملاحة بالأمان ولا إلى تراجع أسعار الشحن والتأمين البحري، كما لم تتراجع الشهية الحوثية، لاستهداف السفن، بل شهدت بعض التصاعد والتطور في الأداء بسبب المساعدة الاستخبارية والتقنية الإيرانية في هذا الصدد. يعني هذا بقاء الشعور بالأزمة، فحرب غزة طالت بعكس الرغبة الأميركية في نهاية سريعة لها أو تخفيض وتيرتها بشدة لامتصاص النقمة الدولية والعربية، ومنع اتساعها وتحولها لحرب إقليمية، خصوصا في ظل الإعلانات الرسمية الإسرائيلية التي تصر على استمرارها وقتا طويلا ومفتوحا.
تؤثر في الموقف الأميركي، بتبنيه ردعا صارما لا يتحول إلى هجوم عسكري، اعتبارات مختلفة ومتناقضة إلى حد ما. الأول هو منع دخول إسرائيل على خط المواجهة المباشرة مع الحوثيين، وهو ما طالبت به إسرائيل ورفضته واشنطن، لأن أي هجوم إسرائيلي ضد الحوثيين قد يعتبره بعضهم في العالم العربي عملا استفزازيا ويثير مخاطر جدية بتوسع النزاع ويحرج حلفاء أميركا العرب. ويدفع هذا أميركا إلى الذهاب أبعد في مواجهة الحوثيين عسكريا.
يتعلق الاعتبار الآخر، والمناقض، برغبة الإدارة الأميركية في عدم تعريض الاتفاق الأولي لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن، وهو الملف الذي تعتبره الإدارة بين أولوياتها الشرق أوسطية بعد أن عينت مبعوثا أميركيا خاصا لليمن، تيم ليندركينغ. أُرسل هذا الاتفاق الأولي الذي توصلت له السعودية والحوثيون بعد مفاوضات شاقة وطويلة خاضها الطرفان، بدعم أميركي، للأمم المتحدة، عبر مبعوثها لليمن، هانس غروندبرغ، لتأطيره دوليا، على أمل وضع ترتيبات نهائية لسلام مقبل في اليمن. لا تريد الولايات المتحدة أن يذهب هذا الاتفاق ضحية مواجهة حوثية- أميركية حول باب المندب.
لكن هذا التردد الأميركي بالتحول من الدفاع للهجوم واستهداف منصات الصواريخ ومواقع إطلاق المسيرات الحوثية ليس مفتوحا ولا عميقا، خصوصا مع تزايد الضغوط في الأوساط البرلمانية والسياسية الأميركية على إدارة بايدن بضرورة الرد العسكري القوي على الحوثيين والتخلي عن الدفاع، فضلا عن التبرم غير المعلن لحلفاء واشنطن العرب من استمرار الضربات الحوثية.
بوادر نفاد الصبر الأميركي واضحة والرغبة في القيام بعمل ما يتجاوز اعتراض الصواريخ الحوثية تتصاعد
في ظل ضعف الدعم العربي لأميركا بإزاء الحوثيين، تقوم الاستراتيجية الأميركية الحالية التي بدأت ملامحها بالبروز مؤخرا بعد فشل الاحتواء عبر الدفاع، على تحشيد الدعم الأوروبي، العسكري والسياسي، خصوصا لأن أوروبا أحد المتضررين الرئيسين اقتصاديا من إعاقة مرور السفن عبر باب المندب، والذهاب نحو عمل عسكري بغطاء أو مشاركة أوروبية.
لكن الموقف الأوروبي يشوبه بعض التردد ويفتقر إلى الوحدة التي اعتادت دول الاتحاد الأوروبي تطويرها بمواجهة التحديات الخارجية، كما ظهر في تعدد الخيارات الأوروبية (رفض أسبانيا الدخول في التحالف البحري الذي تقوده أميركا، ورغبة فرنسا في أن تعمل قطعاتها البحرية منفردة وليس تحت القيادة الأميركية، أو إحياء بعثة بحرية أوروبية سابقة لمكافحة القرصنة في البحر الأحمر... إلخ). مع ذلك يشترك الأوروبيون والأميركيون في الرغبة في القيام بشيء ما فعال لمنع الحوثيين من اعتراض السفن، رغم الخلاف بينهم بخصوص طبيعة هذا الشيء بالضبط وكيفية تنفيذه وتوقيته. في سياق غير بعيد عن هذه الرغبة، يتعاون الأميركيون مع البريطانيين لإصدار إنذار نهائي للحوثيين من أجل التوقف عن التعرض للسفن وإلا فعليهم مواجهة هجوم عسكري يستهدف منصات الإطلاق.
بوادر نفاد الصبر الأميركي واضحة والرغبة في القيام بعمل ما يتجاوز اعتراض الصواريخ الحوثية تتصاعد، خصوصا بعد تدمير القوات الأميركية ثلاثة زوارق حوثية حاولت اختطاف سفينة. وإذا لم يتراجع على نحو دراماتيكي الاعتراض الحوثي للسفن أو يتوقف تماما، فإن العمل العسكري الأميركي يبدو مسألة وقت فقط، وقريبا أيضا.