ميثولوجيا سلامة وبناتها

ميثولوجيا سلامة وبناتها

في سفرٍ بحري قصير وشيّق، يشبه الخيال، قُبالة أحد أهم الممرات البحرية، الذي يعدّ بوابة مرور النفط من الخليج العربي إلى العالم، انكشفت أمامي جزر صخرية صغيرة تُدعى "سلامة وبناتها"، تقع اليوم في نطاق جبال مسندم، حيث ولدتْ ميثولوجيا نابعة من الحكاية الشهيرة التي ما زالت تتوارثها الأجيال إلى يومنا هذا، والتي تدغدغ عواطفنا وثقافتنا البحرية المشتركة في سواحل الإمارات والخليج ، لأجد نفسي مبحرة في خضم الأسئلة الصعبة، فمن هي سلامة؟ ومن هن بناتها؟

تروي الحكاية قصة صياد ظالم رُزق من زوجته سلامة ثلاث بنات رائعات، إلا أن الغِلظة في شخصيته جعلته يضربهن كل يوم ومن دون سبب، كلما عاد من الصيد. صبرت سلامة كأيّ امرأة تريد الحفاظ على بيتها، حتى أعياها الصبر، وشعرت بأن جبروته بلا نهاية، لتستجمع شجاعتها وتهدده بأنها وبناتها سيشتكين أمره. فخاف الصياد، واستمالهن إلى رحلة بحرية، لكنه قرر التخلص من المشكلة برمتها في تلك الرحلة، برمي زوجته سلامة وبناتها في البحر، إلا أن سلامة ترتدّ فجأة، أثناء غرقها، وتتحول إلى جبلٍ ينبثق من البحر، وكذلك بناتها اللواتي يصبحن ثلاث تلال صغيرة بجانبها، ويتحوّلن إلى معجزة تسكن بوابة الخليج إلى الأبد.

ومنذ تلك الحادثة البعيدة، وهن ينتقمن بإغراقهن سفن الصيادين في الغبب (جمع غبة) كلما عبرت بهن، في دوامة بحرية، أو كما نقول الدردور (والدردرة هي دوامة البحر) ولا تنجو السفن إلا برمي مواد غذائية مثل التمور، في البحر قرب تلك الجبال، وبعد المخاطرة والتحدّي تستقيم السفن الآتية من المحيط الهندي لتدخل الخليج بسلام.

ولأن الميثولوجيا لها وظائف رئيسية وعميقة، ترتد هنا خرافة سلامة وبناتها تفسيرا لأسباب وجودنا، وحُجة خلقنا، ونجد كيف أن هذه الأسطورة تعلل الآخر من حيث تَحَكّمهِ بنا، بجانب الطقوس الاجتماعية، من صمت وخجل الأفراد في أنظمتنا الاجتماعية التقليدية، وحضور العدل الكوني حين يدب الرعب في قلب الصياد الظالم، وكأن الخرافة تُحول مجرى الدراما لِتُطيب خاطر المظلومين، وعلى الرغم من تحول رعب الصياد إلى حقد ثم تسلط بإنهائه حياتهن، تأتي فلسفة الوجع ودوامة انتقام البشر بعضهم من بعض.

ترتد هنا خرافة سلامة وبناتها تفسيرا لأسباب وجودنا وحُجة خلقنا


أمّا إن ذهبنا إلى قراءة واقع المكان لهذه الأسطورة، فإننا نجد الدوامات البحرية العنيفة قرب جزيرة سلامة، ومدى فجواتها المائية القاتلة. ولكن ولأننا في عصر علمي، فإننا نحتاج بلا شك إلى تفسير علمي لهذه الدوامات المتولّدة من غضب سلامة، حيث لا رياح ولا عواصف، فمن أين تأتي هذه التيارات؟

موقع جزيرة سلامة وبناتها في مدخل المضيق، يجعلها أول ما يتأثّر بالتيارات المائية القادمة من المحيط الهندي الواسع وبحر عُمان، فتشلّ هذه الدوامات حركة السفن الشراعية المثقلة بالبضائع، وقد تبتلعها، وغالبا كانوا يرمون التمور المخزنة في خِرس (والخِرس تشبه الحقيبة، مصنوعة من سعف النخيل)، وبالتالي التخفّف من وزن السفينة مما يجعلها أكثر سلامة ويجنّب طاقمها مصير من سبقوه.

ونرى كيف أن الأسطورة هنا ترسل رسالتها القادمة من وحي الجزاء والعقاب على شرور الإنسان، ليعتاد البحارة في أسفارهم منذ القدم حمل الزيادة في الطعام، وعليهم الانصياع لغضب سلامة وشروطها، برمي الأغذية، وبنية النذر دون اشتراط، والتخفف بالإحسان والكرم للنجاة والعبور.

في البدء كنت أتساءل: كيف تحولت سلامة المظلومة إلى ظالمة، بأن تقتل الغرباء انتقاما بحجة الاقتصاص الخاص، وأين العدل أمام الثأر؟ وهل مشاعر الغضب انتقام أزلي؟ إلا أن حكمة دوامة الماء وتوضيح العماء المستمر للبشر المرتحلين، يحولان المعنى إلى أدبيّات المرور، فالفرق كبير بين التسلل والاجتياز، وبين التسرّب والسعي.

ومن سلامة وبناتها إلى أساطير أخرى في بحر الخليج، مثل بابا درياه، وخطاف رفّاي، وغيرها، يبقى الخليج العربي منجما غنيا بالميثولوجيا، وكم هي بحاجة إلى قراءات مختلفة تربطها بحياتنا الاجتماعية وقوانيننا وتقاليدنا، والحياة الفكرية والإنسانية والظواهر الطبيعية، عبر أسطورة أو كما نقول خَرّوُفَة، ترتبط رسائلها بجواز العبور إلى أهم معبر في الدنيا... منذ سلامة وبناتها.  

font change