يشهد إقليم كردستان العراق، منذ أكثر من شهرين، هجمات شبه يومية على منشآت تضم قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من تكرار هذه الحوادث، فإن السكان المحليين، الذين اعتادوا الآن على أصوات هذه الهجمات، لا يبدون كبير اهتمام، فيما يركزون أكثر على المخاوف الاقتصادية. تسببت معظم هذه الهجمات في أضرار طفيفة، ولم يؤثر سوى عدد قليل منها على مناطق خارج القواعد التي تتمركز فيها القوات الأجنبية.
وقد عانى إقليم كردستان العراق بالفعل من انتكاسات مالية كبيرة بسبب إغلاق خط أنابيب النفط إلى تركيا في أواخر مارس/آذار، بعد قرار محكمة التحكيم. ويشكل احتمال خسارة المزيد من الاستثمارات، والذي من المرجح أن يصاحب انسحاب الولايات المتحدة، مصدر قلق كبير للإقليم.
بالإضافة إلى ذلك، أدى اغتيال قائد في القوات المسلحة الرسمية العراقية في 4 يناير/كانون الثاني، على يد الولايات المتحدة، إلى تكهنات عديدة بين السكان المحليين حول زيادة احتمال الانسحاب الأميركي.
أكثر من 100 هجوم
وأبلغت وزارة الدفاع الأميركية عبر مسؤول طلب عدم الكشف عن هويته، "المجلة"، يوم 2 يناير/كانون الثاني بعدد كبير من الهجمات على منشآت تستضيف القوات الأميركية وقوات التحالف. وفي الفترة من 17 أكتوبر/تشرين الأول إلى 2 يناير/كانون الثاني، وقع ما لا يقل عن 118 حادثا، منها 52 هجوما في العراق و66 هجوما في سوريا.
وأوضح المسؤول أن هذه الهجمات نُفذت باستخدام أساليب مختلفة، بما في ذلك الطائرات بدون طيار الهجومية ذات الاتجاه الواحد والصواريخ وقذائف الهاون والصواريخ الباليستية قريبة المدى.
ومما زاد من التوترات المتصاعدة بالفعل، أن الهجوم الذي وقع في 4 يناير/كانون الثاني استهدف قاعدة لوجستية لوحدات الحشد الشعبي في المنطقة الشرقية من بغداد. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الحادث إلى تفاقم الوضع.
أدى الهجوم على قاعدة للبيشمركة في 30 ديسمبر/كانون الأول إلى موجة من الاتهامات المتبادلة بين حكومتي بغداد وأربيل
وقال مسؤولون أميركيون لوسائل الإعلام الغربية في وقت لاحق إن الولايات المتحدة هي التي نفذت الغارة بالفعل. لكن لم يصدر أي بيان رسمي حتى وقت نشر هذا المقال.
ويبدو أن قائد لواء من وحدات الحشد الشعبي التابعة للفصيل المسلح المرتبط بإيران، حركة حزب الله النجباء، كان هدف الهجوم.
واستهدفت الولايات المتحدة في الماضي حركة حزب الله النجباء، التي تعتبرها جزءا من جماعة غامضة تعرف باسم المقاومة الإسلامية في العراق، والتي أعلنت مسؤوليتها عن معظم الهجمات الأخيرة على منشآت تستضيف القوات الأميركية. وتُعتبر الجماعة على نطاق واسع مرتبطة بإيران، الجار الشرقي للعراق، أو حتى خاضعة لها. وتبرر هذه الجماعات هجماتها على القواعد الأميركية في العراق وسوريا بدعم الولايات المتحدة المستمر لإسرائيل في حربها على غزة.
وتزعم الجماعة أنها تستهدف القواعد "الصهيونية" في إقليم كردستان العراق، على الرغم من نفي السلطات الإقليمية الدائم لوجود أي قوات إسرائيلية في المنطقة. ولم تقدم هذه الجماعات أو غيرها أي دليل على وجود مثل هذه القوات.
وفي عام 2021، نفذت إيران والميليشيات المرتبطة بها هجمات متعددة على عدة مناطق في إقليم كردستان. وفي 13 مارس/آذار من ذلك العام، تم إطلاق عشرات الصواريخ الباليستية على أربيل في هجوم أعلن الحرس الثوري الإسلامي الإيراني مسؤوليته عنه.
وزعمت إيران حينها أن أربيل تستضيف "جواسيس إسرائيليين،" ولكن لم يستطع أي تحقيق لاحق أن يثبت أي أساس لمثل هذه الادعاءات.
واتهمت إيران في وقت لاحق أحزاب المعارضة الكردية الإيرانية التي لها أذرع مسلحة تعمل في إقليم كردستان العراق بدعم المتظاهرين في إيران بدعم إسرائيلي، وهاجمت هذه الجماعات أيضا.
ألعاب الظل التي لا تنتهي
وفي 25 ديسمبر/ كانون الأول، أدى هجوم على قاعدة أربيل الجوية إلى إصابة ثلاثة جنود أميركيين، ونقل أحدهم في حالة حرجة إلى ألمانيا. دفع هذا الحادث الولايات المتحدة إلى تنفيذ ضربات انتقامية في اليوم نفسه ضد مواقع يعتقد أنها واقعة تحت سيطرة كتائب حزب الله، وهي جماعة مسلحة عراقية أخرى مرتبطة بإيران، وتقع هذه المواقع جنوب إقليم كردستان العراق.
وفي أعقاب هذه الإجراءات الانتقامية، استقرت الجماعات المسلحة على نمط بات مألوفا من استخدام طائرات بدون طيار رخيصة الثمن وغيرها من الذخائر بشكل شبه يومي ضد القوات الأميركية، في حين حاولت أنظمة دفاع باهظة الثمن اعتراضها، وقد نجحت بعض هذه المسيرات في إيقاع أضرار طفيفة.
ويفسر الكثيرون هذه الهجمات المستمرة على أنها لفتة رمزية، تريد أن تقول إن الفصائل المسلحة المتحالفة مع "محور المقاومة" الإيراني لا تزال موجودة وفاعلة. ويكتسب هذا التفسير سياقه في ضوء الصراع المستمر في غزة والتركيز المتزايد على البحر الأحمر، بخاصة فيما يتعلق بالهجمات على السفن التي تبحر في هذه المياه.
مسؤولية "الهجمات الجبانة"
أدى الهجوم الذي وقع في وقت متأخر من الليل على قاعدة للبيشمركة في 30 ديسمبر/ كانون الأول إلى موجة من الاتهامات المتبادلة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان في أربيل.
وحمّل المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان، بيشاوا حمرماني، في بيان صدر بعد وقت قصير من الحادث، الجماعات الخارجة عن القانون والحكومة الفيدرالية المسؤولية. وأضاف أن "هذه الجماعات الخارجة عن القانون، والتي تسلحها وتمولها الحكومة الاتحادية، تتحرك بكل وقاحة تحت مراقبة الحكومة العراقية، وتنقل الأسلحة والصواريخ والطائرات المسيرة لتنفيذ هجمات إرهابية على المؤسسات الرسمية والعسكرية".
في 31 ديسمبر/كانون الأول، نشر رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني على وسائل التواصل الاجتماعي، معربا عن قلقه العميق بشأن الهجوم الذي وقع شمال شرق أربيل. وقال: "إنني أدين بشدة الخارجين عن القانون والمتواطئين معهم. نحن ندرك تماما القضايا الأساسية والجناة، ونؤكد حقنا في الدفاع عن شعبنا". وانتقد بارزاني استخدام موارد الدولة لشن هجمات على إقليم كردستان، وزعزعة استقرار العراق، والمخاطرة بتجدد الصراع في بلد مثقل بالفعل بإراقة الدماء. وحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على اتخاذ إجراءات حاسمة ضد هذه الجماعات وإعادة السيطرة على المناطق التي تنطلق منها الهجمات.
إذا كانت إيران هي المسيطرة، فسينتهي الأمر بنا مثل اليمن أو سوريا
شاب كردي
وردا على ذلك، نفى المسؤولون في بغداد هذه الادعاءات ووصفوها بأنها "أكاذيب". وقال المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي إن "الحكومة الاتحادية تعرب عن استغرابها لتصريح المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان العراق، الذي تضمن اتهامات مختلفة لا أساس لها من الصحة وغير مسؤولة، وخلط معلومات مضللة وأكاذيب لا أساس لها من الصحة"، مضيفا أن الحكومة فتحت تحقيقا في الهجمات.
توقع هجوم إلكتروني كبير
وفي 2 يناير/كانون الثاني، قال مسؤول بوزارة الدفاع الأميركية لـ"المجلة" إنه على الرغم من أن معظم الهجمات على القوات الأميركية وقوات التحالف في العراق وسوريا منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول لم تحقق أهدافها، "فإن مهامنا مستمرة، بما في ذلك حماية القوات، ومواجهة داعش، وتطوير القوات الشريكة". ولم يوضح المسؤول إجراءات محددة لحماية القوات، ولكنه ذكر مجموعة من الأنظمة الأرضية المنتشرة لمواجهة وتحييد الهجمات القادمة التي تهدف إلى إيذاء القوات الأميركية.
وفي الوقت نفسه، قد تتكثف أنواع أخرى من الهجمات قريبا. حيث قال خبير كردي في الطائرات المسيرة لوكالة الأنباء المحلية الناطقة باللغة الكردية، رووداو، في مقابلة نُشرت على موقعها في 2 يناير/كانون الثاني إنه يتوقع "شن هجوم إلكتروني كبير ضد إقليم كردستان في المستقبل القريب".
وقال الخبير شوان جاف، إن الطائرات بدون طيار المستخدمة في هذه الفترة في الهجمات على إقليم كردستان تنطلق من محافظة نينوى المجاورة، وأن "أجزاء الطائرات المسيرة تُستورد من الصين ثم تُجلب إلى العراق عن طريق فيلق القدس الإيراني".
وادعى أن كلا من منظمة بدر المرتبطة بإيران وحركة حزب الله النجباء - وكلاهما لديه ألوية في وحدات الحشد الشعبي الرسمية - كان يتلقى هذه الأسلحة، قبل أن يصبح لهما مرافق محلية خاصة بهما لصنع الطائرات بدون طيار.
القضايا الاقتصادية و"العزلة"
وقال رجل كردي في الثلاثينات من عمره يعمل في قطاع الإعلام في إقليم كردستان العراق لـ"المجلة" في محادثة أجريت معه في أوائل يناير/كانون الثاني في أربيل إن مصدر القلق الرئيس الآن لسكان إقليم كردستان العراق هو الحالة المزرية للاقتصاد في المنطقة والنقص الكبير في الوظائف.
وانتقد سكان مدينة السليمانية القريبة من الحدود الإيرانية لكونهم أقرب من أي وقت مضى إلى إيران والحكومة المركزية، مما أدى إلى دق إسفين أعمق بين السكان الأكراد المنقسمين بشدة.
"لاحظي أن جميع الهجمات في إقليم كردستان العراق تحدث في مناطق خاضعة لسيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وهو أكبر حزب في إقليم كردستان العراق ويحظى بدعم قوي في محافظتي أربيل ودهوك، وليس في المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، منافس الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وادعى الرجل أن "الاتحاد الوطني الكردستاني يقع تحت تأثير إيران. وإيران تملي عليهم ما يجب أن يفعلوا، ولذلك فهي لا تستهدفهم. إنهم حلفاؤهم".
وقالت مصادر أمنية متعددة إن الاتحاد الوطني الكردستاني يتعاون بشكل وثيق مع الحكومة المركزية مقارنة بالحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي غالبا ما يتصادم مع بغداد حول قضايا مختلفة. ومعروف أن الحكومة الحالية في بغداد قريبة جدا من إيران.
وكان الاتحاد الوطني الكردستاني حقق أداء قويا في محافظة كركوك أثناء انتخابات مجالس المحافظات والتي أجريت في جميع محافظات العراق باستثناء محافظات إقليم كردستان العراق في 18 ديسمبر/ كانون الأول. ولا تزال هذه المنطقة الغنية بالنفط منطقة تنازع بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد ولكنها تخضع لسيطرة الحكومة المركزية منذ عام 2017.
في الوقت نفسه، فقد الحزب الديمقراطي الكردستاني عدة مقاعد في منطقة نينوى، حيث كان أداء الأحزاب القريبة من الفصائل المسلحة التي يقودها الشيعة جيدا.
ومع ذلك، فإن ما يشغل الانتباه أكثر من مقاعد مجلس المحافظة هنا في أربيل هو استمرار توقف صادرات النفط من إقليم كردستان إلى تركيا.
ففي مارس/آذار من العام الماضي، أوقفت تركيا صادرات النفط الكردية عبر خط أنابيب بين البلدين بعد أن قضت محكمة تحكيم دولية في باريس بأن أنقرة انتهكت بندا من اتفاقية عام 1973 بينها وبين بغداد.
خوف من "انسحاب أميركا"
وصرح رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني في الأشهر الأخيرة أن استئناف صادرات النفط عبر خط الأنابيب هذا يعتمد على بغداد وليس تركيا.
وقال اتحاد صناعة النفط في كردستان في أكتوبر/ تشرين الأول إن الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان وشركات النفط العالمية خسرت ما مجموعه 7 مليارات دولار من الإيرادات منذ إغلاق خط الأنابيب. وبرغم تعدد المفاوضات بين بغداد وأربيل، إلا أنه وحتى أوائل شهر يناير/كانون الثاني بقيت المسألة دون أي حل.
ويرى العديد من سكان إقليم كردستان العراق أن الإغلاق المستمر لخط الأنابيب، والوابل المستمر من الهجمات ومحاولات إخراج مؤيديهم الأميركيين من البلاد، مجرد وسيلة لزيادة عزلتهم وإفقارهم.
وعندما سُئل الرجل الثلاثيني عما إذا كان يعتقد أن الأكراد العراقيين يثقون بالأميركيين، قال: "ولكن من غيرهم يمكنه أن يدعمنا؟"، وأضاف: "أوروبا ضعيفة للغاية وسوف تغادر المنطقة إذا غادرتها الولايات المتحدة. وإذا كانت إيران هي المسيطرة، فسينتهي الأمر بنا مثل اليمن أو سوريا".