العراقيون في 2024: بين التشاؤم والأملhttps://www.majalla.com/node/307666/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-2024-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%A4%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%84
قبل نهاية عام 2023 بأيام، جرى اتصال هاتفي بيني وبين الدكتور توفيق السيف. وبدأ الأستاذ توفيق حديثه بملاحظة على كتاباتي ولقاءاتي التلفزيونية التي أحاول فيها قراءة الشأن العراقي وتحليله. وكان اعتراضه على نبرة التشاؤم التي تسود خطابي ومقالاتي، مؤكدا أن دور النخب والمثقفين والأكاديميين تقديم أفق للمستقبل بدلا من الاستغراق في نقد الحاضر.
من حيث المبدأ، اتفقت معه كثيرا. وحفزني لكتابة هذا المقال الذي أحاول فيه أن أبحث عن بوادر الأمل لإشاعتها، وأبرر تشاؤمي الذي قد أكون مبالغا فيه. وفي لحظة استدراك، تذكرت أن الكتابة عن الأمل والتفاؤل وحتى التشاؤم يجب التعامل معها بحذر، ففي بلدي نعيش محنة الاستقطابات بين أن تكون مداحا ومطبلا للحكومة والطبقة الحاكمة، وأن توصف بأنك معارض ناقد لا ترى غير الظواهر السلبية! لكن على العموم، أحاول التأكيد على أن مهتمي ليست الترويج للحكومات ولا للسياسيين، وإنما تشخيص الأخطاء من أجل تسليط الضوء عليها والبحث عن إمكانية تجاوزها أو تقليل آثارها.
دائما، ما أتمسك بأمل بأن المحنة والأزمات يواجهها العراقيون بتحد وصلابة، لا توجد محنة أكبر من أن تعيش في ظل الدكتاتورية، ولا توجد أزمة أكبر من تحدي الحرب الأهلية، ولا مواجهة الإرهاب وعصابات التطرف والتكفير، ومحاولات تفكيك العراق وتحويله إلى دويلات. كل هذه البلايا والمحن تجاوزناها وانتصرنا عليها، رغم أنها تركت آثارها وبقايا مخالبها في المجتمع والدولة.
محنة العراقي أنه يرى أمام عينيه ثرواته تسلب وتنهب من قبل حكام تسلطوا عليه بعنوان "شرعية الانتخابات"
في 2007 وصف الدكتور رشيد الخيون العراقيين بانهم "انتحاريون من صنف آخر، حملوا توابيتهم على ظهورهم من أجل إبقاء شمعة الأمل متوقدة، يرجون بناء العراق وكشف الظلمة عن أجوائه. تراهم يتحدون القوى الكاسرة من تنظيمات الإرهاب والتخلف، ويجوبون المدن والقرى شاجبين ثقافة الكراهية". أتذكر هذا الوصف مع كل احتفال برأس السنة الميلادية، وكأن العراقيين يحتفلون بإرادتهم وتمسكهم بالحياة رغم ركام الفوضى والخراب الذي يدور حولهم.
ولذلك نجدهم في كل احتفال أو حدث يحتفون به، يعبرون عن تمسكهم بالحياة والأمل، ويؤكدون للعالم أنهم فعلا ورثة ملحمة جلجامش التي يمكن اختصارها في تمسكها بالحياة وبحثها عن الخلود. وطوال السنوات الماضية كسر العراقيون إرادة قوى الإرهاب والظلام وجماعات السلاح المنفلت بإرادة الحياة، وكما عبر عنها الشاعر الكبير محمود درويش بقوله:
ونحْن نحب الحياة إذا ما اسْتطعْنا إليْها سبيلا
ونرْقص بيْن شهيدْين نرْفع مئْذنة للْبنفْسج بيْنهما أوْ نخيلا.
تشاؤم العراقيين وطبقتهم الحاكمة
لعل أكبر مشكلة في الثقافة السياسية العراقية، هي التعامل مع الحكام، ويبدو أن تشخيصها تاريخيا يعود إلى ما دوّنه ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" عندما حضر الموت معاوية بن أبي سفيان، فأوصى ولده يزيد: "انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف".
ويبدو أن نزعة التمرد على الحكم، أورثت لنا جدل المقارنات المغلوطة بين الحاكم السابق والحاكم اللاحق، وبالنتيجة أصبحنا نقارن بين السيئ والسيئ! وربما تلك إحدى مبررات التشاؤم من الطبقة الحاكمة، حتى في زمن "الديمقراطية"، فقد باتت مقارناتنا بين الحكومة الحالية والحكومات السابقة.
قد تكون محنة العراقيين مع سنواتهم التي تنتهي من دون تغيير ملموس أو أمل يرتجى بالتغيير نحو الأفضل، ليست مجرد نظرة متشائمة، وإنما هي معطيات واقعية؛ إذ كيف يمكن للعراقي أن يشعر بالتفاؤل ويأمل في تحسين أوضاع حياته اليومية، ومن يحكمه لما يقارب العشرين عاما لا يزال يتمسك وبقوة بنظرية المؤامرة لتبرير فشله وخيبته في إدارة الدولة! وغالبا ما نتمسك بخيط رفيع من الأمل بتغيير الحكومات، إلا أننا سرعان ما نكتشف أننا نخدع أنفسنا بأوهام التغيير ليس إلا؛ لأن المشكلة في المنظومة السلطوية وليس في تغيير الأشخاص الذين يقودون الحكومة.
وتقول المعادلة الشهيرة إن الآمال الكبرى تنتهي عادة بإحباط أكبر، إن كانت الآمال هشة، أو مفرطة. وأعتقد أنه من السذاجة الاعتقاد بأن المنظومة الحاكمة في العراق قادرة على إحداث تغيير في السياسات العامة؛ لأنها ترفض التفكير بمنطق الدولة وتصر على التعامل مع مؤسساتها السياسية وفق مبدأ الاستحواذ والسيطرة الحزبية وتحويلها إلى مقاطعات لحاشيتها وزبائنها.
لذلك في كل مناسبة أو ذكرى تمر على العراق، نجد صنفين يلتقيان في العراق ويفترقان في رؤيتهما له، إذ شتان ما بين مهووس بالسلطة والنفوذ وسرقة المال العام ومن يعد العراق منجما ينهب ويسلب منه من دون حسيب أو رقيب، وبين من يتمسك بوطنه في الشدة والرخاء! ورغم كل الخراب والفوضى التي أسستها الطبقة السياسية الحاكمة والقوى الفاعلة في الحكم، نجد العراقيين يصرون على أنهم يتمسكون بحلم العيش في دولة تعيد الاعتبار لهويتهم الوطنية. لذلك على الحكومة والأحزاب السلطوية أن تقارن بين احتفالات تقيمها لتعبر عن شرعية نفوذها ورمزياتها السياسية الموهومة التي لا يحتفي بها إلا زبائنها، وبين احتفالات تعبر عن عودة الروح للهوية الوطنية التي عملت الحكومة والأحزاب على طمسها طوال سنوات حكمها.
محنة العراقي أنه يرى أمام عينيه ثرواته تسلب وتنهب من قبل حكام تسلطوا عليه بعنوان "شرعية الانتخابات"، وآخرين يريدون أن يتسلطوا بعنوان "شرعية الجهاد والمقاومة"، وقبلهم ضاعت ثروات العراق وشاع الفساد والفوضى بفضل حكم زعامات سياسية كانت تدعي أنها تعارض النظام الدكتاتوري. ويرى أيضا أن هذه الطبقة السياسية ما عادت تشعر بالعار من اتهامها بالخيانة والولاء للأجنبي وتنفيذ أجندته لتدمير العراق.
غاية الطموح المنظور هو أن يكون العراق دولة خدمات مع شبكة ضمانات اجتماعية تتأسس على العدل
تواضع الأمنيات
لم يعد العراقي يفكر في منافسة دول مثل ماليزيا ولا سنغافورة، ولا اللحاق باقتصاديات دول الخليج. وإنما بات مطلبه الرئيس من الحكومة وأحزاب السلطة، مغادرة خطاب "سوف نعمل"، و"ندعو..."، فلم يعد الزمن يتحمل مزيدا من الوعود الفارغة والاستذكاء والتعالي على الجمهور بخطابات بائسة والمرور البارد على آلام الناس ومعاناتهم. المواطن العراقي يريد أن تكون الكهرباء حاضرة وأن لا تصبح همه الشاغل، ويريد مستشفيات توفر له الرعاية الصحية، لا أن يدخل إليها يبحث عن الشفاء ويغادرها على سرير الموت، ومدارس لأطفاله تكون مراكز للتعليم لا مقرات تؤشر للفوضى والخراب في قطاع التربية، ويريد ضمانا للعيش بكرامة، وشوارع نظيفة وصالحة للسير فيها. ويبحث الشاب العراقي عن فرصة عمل تؤمن له قوت يومه وضمانا لمستقبله، بدلا من التفكير في مغامرة الهجرة بقوارب الموت. هذه الأمنيات ليست بالمستحيلة في بلد تبلغ وارداته أكثر من 8 مليارات دولار من عائدات النفط لشهر واحد، ولكن سوء الإدارة والفساد والمافيات السياسية تجعلها صعبة التحقق.
وبعد تكرار الخيبات من الحكومات السابقة، وفقدان الأمل والثقة بأن تغيير الحكومات يمكن أن يحمل تغييرا على مستوى حياتهم اليومية، بات العراقيون لا يحلمون بمعجزة اقتصادية ولا القفز بمعدلات النمو، ولا أن يكون العراق ضمن قائمة الدول العربية والإقليمية الصناعية والزراعية، ولا أن يعيشوا في ظل دولة الرفاه! وإنما باتت أمنياتهم محصورة باستعادة الدولة أولا وأخيرا؛ لأن غياب الدولة يعني غياب القانون وسطوة جماعات السلاح المنفلت، والعيش تحت سطوة مافيات الفساد.
حتى الفساد الذي لا يختلف على وجوده ومظاهره اثنان من العراقيين تحولت المطالبة بمحاربته إلى نوع من الأمنيات التي يتحدث عنها المواطن! وأصبحت مطالبه بأن تكون هناك حدود معينة للفساد، لا أن يجدها في الطرقات العمومية التي تحولت تسمياتها إلى (طرق الموت)، وأن تصله مفردات البطاقة التموينية كاملة وفي توقيتها الشهري، بدلا من أن يكون نصفها مسروقا ونصفها الآخر غير صالح للاستهلاك البشري!
العراق بريعه النفطي لا يريد من حكومته إلا أن تحقق حدا مقبولا من سلطة القانون التي تفضي إلى إيقاف الفساد وإبعاد سطوة أحزاب السلطة ومن يرتبط بها من مافيات المال والسلاح عن مشاريع الخدمات العامة والاستثمار، وقتذاك فإن عوامل السوق ستعيد للاقتصاد توازنه وتكون الدولة مؤتمنة على ثرواته المادية، وعليها فقط أن تفلح في توزيعها، إذ إن غاية الطموح المنظور هو أن يكون العراق دولة خدمات مع شبكة ضمانات اجتماعية تتأسس على العدل وتقليص الفوارق.
ليس في وارد القول إن المستقبل كالح، بل في وارد التذكير بأن صورة المستقبل لا تتوقف على الوعود والشعارات والخطابات الرنانة. ولكن نحتاج إلى وقف وصفات الخراب والفوضى التي تتراكم على يد من يحكم العراق. ورغم كل السوداوية وانعدام التفاؤل بأن يكون القادم أفضل على يد هذه الطبقة الحاكمة، إلا أن الأمل يبقى ويجب أن لا نركن إلى اليأس. لأن هذا تحديدا ما تريده هذه القوى السلطوية. والزمن سيبقى ضاغطا على نحو التغيير مهما طال أو قصر، فإن البقاء لم يعد للأقوى وإنما لمن يكون قادرا على التعامل بمرونة مع التغيرات والتطورات التي تحدث من حوله.
إذن، في بداية كل عام نؤكد على أننا في معركة شرسة مع الأمل والتفاؤل بعودة العراق كدولة، وليس كيانا سياسيا هشا تتقاسمه عناوين طائفية وقومية وصراع محاور؛ وليست قوى السلطة وأحزابها هي من سيستعيد الدولة إلى العراقيين، لأن غالبية رجالاتها لا يجيدون غير إشاعة فن الموت، وثقافة الظلام، ويرفضون العيش خارج دائرة الفوضى والخراب الذي أنتجوه طوال فترة حكمهم.