عن الراية البيضاء التي صارت خدعة قاتلة في حرب غزةhttps://www.majalla.com/node/307656/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%AA-%D8%AE%D8%AF%D8%B9%D8%A9-%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
فلسطينيون على عربات تجرها الحمير يرفعون أعلاما بيضاء، في محاولة لمنع إطلاق النار عليهم، أثناء فرارهم من حي الرمال في مدينة غزة، الأربعاء 8 نوفمبر 2023.
غزة: بفعل اتساع رقعة الحرب على قطاع غزة، وامتداد التوغل البري للاحتلال الإسرائيلي إلى مناطق مختلفة، يضطر المدنيون الفلسطينيون إلى طلب الأمان من الجنود الإسرائيليين، عبر رفع الراية البيضاء، سواء للنزوح من منازلهم تحت اشتداد القصف واقتراب الخطر، أو في الحالات الطارئة المتعلقة بالأوضاع الصحية الحرجة، أو من أجل تلبية احتياجاتهم اليومية.
خلال رحلة النزوح الجماعية التي فرضتها إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين، أجبرت فرق الجنود النازحين على حمل الراية البيضاء، إبّان مرورهم أمام الحاجز العسكري عند دوار الكويتي، في شارع صلاح الدين، بهدف كسر روحهم المعنوية، وتقديم "رسائل انتصار" لم يتحقق أمام الرأي العام الإسرائيلي.
يعود تاريخ الراية البيضاء في الحروب إلى الحضارات القديمة، وهي تشير في مثل تلك الظروف إلى استسلام حامليها، وخروجهم من نطاق القتال، سواء أكانوا عسكريين أم مدنيين. وقد أورد المؤرخ الروماني بابليوس تاسيتُس فكرة الراية البيضاء التي استخدمها الرومان عام 109 للميلاد للتعبير عن الاستسلام والانصياع إلى إملاءات العدو، بهدف النجاة، وإنهاء المعركة.
لا يعير جنود الاحتلال الراية البيضاء أي اهتمام، بل أن الكثير من الفلسطينيين المدنيين قتلوا بعد رفعهم الراية البيضاء
العلامة البيضاء
في القرون الوسطى، استخدم الأوروبيون اللون الأبيض للتمييز بين المقاتلين، وأولئك الذين خرجوا من دائرة القتال، بالاستسلام أو الأسر، وقد تعاملوا مع الأسرى بطريقة العلامة البيضاء، فكانت الجموع العسكرية المستسلمة تحمل صولجانا أبيض اللون، ملمحة إلى طلب العفو وعدم قدرتها على الاستمرار في القتال. أما الأسرى فكانت قطعة الورق الأبيض ترفق بالخوذ الخاصة بهم، أو القبعات، ويُمنحون الأمان والرعاية بمجرد إعلان الاستسلام.
في الحرب العالمية الثانية، رفعت القيادة الألمانية الراية البيضاء، بعد هزيمتها، عام 1945، أمام الجيش الأحمر الروسي، والجيشين الأميركي والفرنسي، معلنة انتهاء الحرب التي أخذت في طريقها ملايين القتلى.
الراية البيضاء وسبل النجاة في غزة
على الرغم من معاناة الفلسطينيين الخوف والرعب جراء القصف المتواصل، وهدم المباني على رؤوس الآمنين، إلا أن الكثير منهم فضّل البقاء في منزله، وتحمل وطأة الحرب الثقيلة، والمجازفة بحياته وحياة ذويه، مهما كان الثمن.
لكن آخرين خضعوا لهول الخوف الناجم عن العنف الذي تمارسه إسرائيل، وخرجوا هاربين، بهدف النجاة بحياتهم وحياة أبنائهم، لذا كان عليهم رفع الراية البيضاء، وطلب الأمان من الجنود الاسرائيليين، إما طوعا أو إجبارا. لكن هل كانت هذه الراية دوما وسيلة لحقن دماء الفلسطيني خلال الحرب؟
فأن يرفع الإنسان الراية البيضاء، يعني أنه لم يعد يشكل خطرا على عدوه، وأنه قد مدّ يده للسلم، وانصاع كامل الانصياع للأوامر. هذه الصورة هي من الضوابط الإنسانية المتعارف عليها، وحريّ بها أن تُستقبل بالقبول والسلم من الطرف الآخر خلال الحروب، لكن خلال الحرب الحالية على غزة، التي قاربت دخولها الشهر الرابع، فإن جنود الاحتلال الإسرائيلي، مثلما بيّنت التجربة، لا يعيرون الراية البيضاء أي اهتمام، بل أن الكثير من الفلسطينيين المدنيين قتلوا بعد رفعهم الراية البيضاء، وإعطائهم الأمان.
شعرت حينها بأن خلايا جسدي تتفكك، فأصوات الجنود لم أكن أسمعها مجرد سماع، بل كانت تحدث ثقوبا في جلدي
دم مهدور يلطخ الراية البيضاء
خلال الشهر الماضي، شهد قطاع غزة انتهاكات لا إنسانية، وتخطّياً صارخا للقوانين الدولية، إذ أقدم جنود الاحتلال الإسرائيلي على هدر دم أناس طلبوا الأمان ونفذوا تعليمات فرق الجنود بحذافيرها. ففي حي الصفطاوي شمال مدينة غزة، دهم الجيش المدجج بالسلاح المناطق السكنية المأهولة بالسكان، ممن رفضوا النزوح الى الجنوب، فاختاروا البقاء آملين بأن بقاءهم داخل المنازل يعفيهم من بطش الجنود، ومعتقدين بأن الجيش الإسرائيلي يلاحق فقط من يشارك في عمليات القتال.
يبدو الأمر في الحرب على غزة مختلفا تماما عن الصورة المتخيلة المربوطة بذهن الكثيرين، وهي أن الواقف على الحياد، يعفى من المساءلة، ولا يمسسه أي ضرر، فالواقع القائم يتخذ صورة مأسوية جدا، بفعل انتهاك قوات الحرب الإسرائيلية المعايير الأخلاقية كافة في ما يتعلق بالإنسان ومقدراته.
حدث قبل أيام أن جنود الاحتلال الإسرائيلي طالبوا عبر مكبرات الصوت سكان حي الصفطاوي بخروج الرجال والأطفال، وإخلاء منازلهم، للفئات العمرية من سن 15 حتى 65. الكثير من العائلات نفذ التعليمات، ومن بينها عائلة أبو إمطير، التي لبّت النداء، وخرج رجالها وأطفالها، كما المطلوب، حاملين رايات بيضاء، وفي أيديهم بطاقات الهوية الشخصية، وانصاع أهل المنزل متوافدين الى الشارع على شكل سلسلة بشرية محملة بالرعب، وبكل الأفكار المتخيلة بالتعرّض للإيذاء.
من بين هذه السلسلة كان العديد من الأطفال الذين يحملون رايات بيضاء، في يد، أما اليد الأخرى فكانت ترتعش فارغة، دون الهوية الشخصية، إذ لم تحن بعد السن القانونية لصدورها.
صورة قديمة
أعرف تماما مشاعر الأطفال في مثل هذه اللحظة المفرطة في الرعب، فقد تعرضت لموقف مماثل خلال الانتفاضة الأولى، عام 1990، وكنت وقتها في التاسعة من عمري، حين دهمت قوات الاحتلال الراجلة الحي الذي أقطنه، خلال منع التجول المفروض. كنت ألعب مع أقراني في الحي، لكن رؤية الجنود بالزي العسكري والأسلحة وهي تدخل شارعنا كانت مزلزلة، وكان الهروب رد فعل طبيعيا أمام احتمال الإيذاء أو الموت. فما كان مني إلا أن هربت مرتبكا، حاملا معي ثقل قدميّ المرهونتين بالخوف، واختبأت في زقاق ضيق بين منزلين، بعدما وجدت باب منزلي مغلقا آنذاك. بعد وقت قليل، كنت أرقد لاهثا في الزقاق، وأرى أسلحة الجنود ووجوههم المريبة، تمر من أمامي، كنت أراهم ولا يرونني، وقلبي يستمر في الطرق كأنه طبلة بإيقاع سريع. وفي لحظات كثيرة كنت أغمض عيني، لأبعد صورة اقتراب الجنود مني، ودحر الرعشة التي كانت تتملكني. لقد شعرت حينها بأن خلايا جسدي تتفكك، فأصوات الجنود لم أكن أسمعها مجرد سماع، بل كانت تحدث ثقوبا في جلدي. لقد كانت رؤية الجندي وقتها، كأنما رؤية الموت ذاته، ولم أكن أعرف صورة الموت كاملة، لكني أشعر بها الآن، لقد كنت أرفع راية بيضاء أيضا، بطريقتي البريئة في الهروب.
حتى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، التي يقصدها المدنيون طلبا للحماية والأمان، لم تعد آمنة
الخوف أكبر عمرا
أظن أن مشاعر الخوف لا يمكن ربطها بالعمر بالمطلق، فهي دوما أكبر عمرا وقدرة من الإنسان، وليس لي أن أتخيل تماما كيف كانت مشاعر رجال وأطفال عائلة أبو إمطير، في تلك اللحظات، فالأمر كان أشد شراسة، حين أقدم جنود الاحتلال على فرز أفراد العائلة، دون سبب محدد، وأوقفوا أربعة من الرجال براياتهم البيضاء على باب منزلهم، واعتدوا عليهم بالضرب، ومن ثم أعدموهم بدم بارد أمام أطفالهم، وكان من بينهم رجل ستيني. كما اعتقلوا خمسة من أفراد العائلة، من بينهم أحد الأطفال، واقتادوهم إلى أماكن مجهولة، تاركين الجثث ملقاة على الطريق، والرايات البيضاء ملطخة بالدماء. هكذا يضع الإسرائيلي يده على الجرح الفلسطيني ويضغط أكثر فأكثر، متجاهلا السؤال الأخلاقي في ما يفعل.
اغتيالات غادرة
حادثة أخرى، وقعت في حي الزيتون شرق مدينة غزة، حينما أطل فرد من عائلة الخالدي من شباك منزله، رافعا رايته البيضاء، ومتوسلا الجنود الإسرائيليين، لتمكينه من نقل أبيه المريض بالقلب إلى المستشفى، بسبب تأزم حالته الصحية. وبعدما أعطاه الجنود الأمان، وطالبوه بالنزول وإنزال والده، تقدّم الجنود نحوهما، وألقوا الراية البيضاء من يده، ومن ثم أطلقوا النار عليه وعلى والده، وأردوهما قتيلين.
في السياق نفسه، خرج رجل من عائلة شاهين، وابنه، حاملين الراية البيضاء في حي النصر شمال مدينة غزة، فتقدم الرجل برايته، مخبرا الجنود نيته إسعاف ابنه، الذي تعرض لشظايا إطلاق الرصاص، وقد منحه الجنود فرصة المضي مشيا، والتقدم قليلا، فظنّ أنهم قد أعطوهما الأمان، وما كانت إلا لحظات قليلة، حتى أطلق الجنود النار عليهما غدرا واستهتارا بحياتهما، وبكل المشاعر الإنسانية، فسقطا قتيلين دون أي جرم ارتكباه سوى الثقة بكلمة المحتلّ.
مراكز الإيواء غير آمنة
من الواضح أنه لم يعد في قطاع غزة شخص آمن، سواء برفع راية بيضاء أو من دونها، فنجد أن محافظات عديدة مثل رفح ودير البلح والزوايدة، البعيدة عن خطر القتال كما حددتها إسرائيل، مطالبة السكان بالنزوح إليها، سقط فيها الكثير من الضحايا الأبرياء. أما في محافظات الشمال، ومحافظة خانيونس، والنصيرات والمغازي، فقد كان عدد الضحايا أكبر، بفعل التوغل البري لقوات الاحتلال.
حتى مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، التي يقصدها المدنيون طلبا للحماية والأمان، والتي من المفترض أن المقيمين تحت رايتها الزرقاء، يرفعون راية بيضاء، ضمنيا، لكن هذه الأماكن أيضا، لم تعد آمنة، ولا تعفي ساكنيها من ويلات الحرب، والتعرّض لخطر الإصابة أو الموت، لا سيما أن الكثير منها تعرض للقصف والدهم والتهجير القسري، وسقط داخل أروقتها 300 قتيل، فيما تعرض ألف شخص للإصابة داخلها، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، بحسب إفادة المفوض العام للأونروا في أحدث تصريح له، وهو ما يكشف زيف المعايير الدولية في التعامل مع جرائم الحرب والإبادة، وبأن هناك دولة بعينها لا تزال تعتبر نفسها فوق القانون وفوق الضمير.