تل أبيب تبدو أكثر حافزية من "حزب الله" لـ"استباق الضربة"
AFP
جندي إسرائيلي يرتدي رقعة على الجزء الخلفي من سترته تظهر زعيم "حزب الله" حسن نصر الله كهدف، يقف أمام دبابة في الجليل الأعلى بشمال إسرائيل في 4 يناير
بات في الإمكان التقاط مؤشرات عديدة إلى أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تشهد الآن تحولا مفصليا نحو "المرحلة الثالثة" وفق التسمية الأميركية والإسرائيلية، باعتبار أن المرحلة الأولى تمثلت في الرد الإسرائيلي على هجوم "حماس" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من خلال القصف المكثف على قطاع غزة، أما المرحلة الثانية فقد بدأت مع انطلاق الهجوم البري الإسرائيلي في القطاع يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
عمليا ازداد الحديث عن "المرحلة الثالثة" قبل نحو أسبوعين، وذلك بسبب الضغوط الأميركية على إسرائيل، بأن ليس في مقدورها الاستمرار في الحرب بالوتيرة نفسها في ظل الارتفاع القياسي في عدد الضحايا الفلسطينيين ما فرض ضغوطا سياسية على الإدارة الأميركية. كذلك فإن استمرار الحرب بالكثافة النارية نفسها من شأنه أن يزيد احتمالات اتساع الصراع في المنطقة ما يؤثر على خطط أميركا فيها على المدى البعيد.
لكن الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" لم يكن فقط نتيجة الضغط الأميركي على تل أبيب بل أيضا لأن إسرائيل نفسها لا تستطيع الاستمرار في حربها ضدّ القطاع بالوتيرة نفسها، بالنظر إلى أن قوتها النارية بدأت تنقلب ضدها لناحية تفاقم النقمة العالمية عليها، وإن كان ذلك لا يجب أن يدفع إلى التشكيك في قوة الدعم الأميركي والغربي لها منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما أن إسرائيل حققت واقعيا أهدافا عسكرية ضدّ "حماس" شمالي القطاع، وهو ما يتيح لها الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحرب، وإن كانت عمليا لم تحقق "صورة نصر" كبيرة.
ومن المؤشرات على الانتقال إلى "المرحلة الثالثة"، الخطط الإسرائيلية لإخراج خمسة ألوية من القطاع، بينهم ألوية من الاحتياط، وسط تباين إسرائيلي حول الوجهة الجديدة لهذه الألوية، بين من يقول إن وجهتها ستكون خان يونس حيث يتوقع أن تتركز العمليات القتالية في المرحلة المقبلة، بالنظر إلى التقدير الإسرائيلي بأن قادة "حماس" بمن فيهم يحيى السنوار يتحصنون فيها، وبين من يقول إن وجهتها ستكون الحدود مع لبنان للاستعداد لاحتمال حرب واسعة مع "حزب الله"، أو حتى لتعزيز الردع ضده.
اغتيال العاروري ورفاقه يعبّر أكثر من اغتيال رضا موسوي عن بدء "المرحلة الثالثة" من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
تحول أميركي
المؤشر الثاني هو استعداد حاملة الطائرات الأميركية "جيرالد فورد" لمغادرة المنطقة خلال الأيام القليلة المقبلة لتعود إلى مينائها في ولاية فيرجينيا الأميركية مع قوة عمل تضم بوارج إضافية، بينما ستظل حاملة طائرات أميركية واحدة في الشرق الأوسط وهي "دوايت آيزنهاور". وهذا دليل قوي على تحول جوهري في المقاربة الأميركية للحرب يعكس عدم رغبة الولايات المتحدة ببقاء الحرب الإسرائيلية على غزة بالوتيرة نفسها. كذلك فإن مغادرة "جيرالد فورد" يدل على اعتبار واشنطن أن السبب الذي قدمت من أجله وهو ردع إيران وأذرعها عن توسيع نطاق الحرب قد زال، وهو ما يترك تساؤلات عما إذا كانت مغادرتها تأتي كنتيجة لترتيبات معينة بين طهران وواشنطن في المرحلة المقبلة، أو كتقدير "عن بعد" بنهائية عدم رغبة إيران ووكلائها بتوسيع رقعة الحرب.
أما المؤشر الثالث فيتمثل في انتقال إسرائيل إلى العمليات الأمنية ضد "حماس" وبصورة أعم ضد "محور المقاومة" في المنطقة، والبداية كانت مع اغتيال القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضا موسوي في دمشق يوم 25 ديسمبر/كانون الأول، علما أن إسرائيل نفذت خلال الأسبوع الماضي ست هجمات ضد أهداف إيرانية في سوريا، وهو ما يمكن اعتباره تصعيدا في وتيرة هجماتها هناك.
ثم اغتالت إسرائيل، الثلاثاء الماضي، نائب رئيس المكتب السياسي في "حماس" صالح العاروري مع قياديين رئيسين للحركة في لبنان، هما: سمير فندي، رئيس الوحدة التكنولوجية في "حماس"– لبنان، والمسؤول عن إطلاق كثير من الصواريخ على إسرائيل إنطلاقا من لبنان. وعزام الأقرع، وهو "مسؤول عن عدد كبير من الهجمات داخل إسرائيل"، بحسب ما ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، كما قتل في الهجوم أربعة كوادر آخرين.
صورة نصر
والحال أن اغتيال العاروري ورفاقه يعبّر أكثر من اغتيال رضا موسوي عن بدء "المرحلة الثالثة" من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، باعتباره متصلا بمحاولة إسرائيل تجميع "صور نصر" في هذه الحرب، إن لم يكن داخل القطاع فخارجه، كشرط من شروط الانتقال إلى "المرحلة الثالثة" أو كمبرر لها. مع العلم أنّ هذا الاغتيال هو الترجمة العملية الأولى للتهديد الذي أطلقه مدير جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) رونين بارفي في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بأنه سيلاحق عناصر "حماس"، في كل مكان، "في غزة، في الضفة الغربية، في لبنان، وفي قطر". كما أن بنيامين نتنياهو كان هدد في أغسطس/آب الماضي باغتيال العاروري وهو ما استدعى ردا من قبل الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، مفاده أن أي اغتيال تنفذه إسرائيل في لبنان سواء استهدف شخصية لبنانية أو فلسطينية سيستوجب الرد.
الربط بين اغتيال موسوي والعاروري يسهّل على "حزب الله" التعامل مع اغتيال الأخير في معقله لناحية كيفية الرد وحجمه وتوقيته
في هذا السياق لم يكن قليل الدلالة قول مستشار نتنياهو داني دانون عقب اغتيال العاروري: "لا نستهدف لبنان ولا حزب الله، بل كل من تورّط في هجوم 7 أكتوبر". كما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بعد "عملية بيروت" إن "تركيزنا كان ولا يزال منصبا على قتال حماس". كذلك قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان الأربعاء: "نحن على جاهزية عالية في الشمال ولكننا نركز حاليا على قتال حماس". وهذا الكلام الإسرائيلي هو محاولة مركبة لتحييد "حزب الله"، من خلال القول إن عملية اغتيال العاروري هي امتداد للحرب على قطاع غزة ولا تدخل في سياق المواجهة المفتوحة مع "الحزب" على الحدود بين لبنان وإسرائيل، وكأن تل أبيب تحاول الإيحاء بأن المعطى الجغرافي هنا هو معطى هامشي. ولكن في الوقت نفسه فإن اغتياله في بيروت ينطوي على خطر تصعيد إضافي في المواجهة بين إسرائيل و"حزب الله" باعتبار أن الأخير ملزم استراتيجيا بالرد على استهداف معقله، وهو ما يزيد من احتمالات "سوء الفهم المتبادل" بين الجانبين، وهذا ما يجعل إسرائيل أكثر استعدادا على حدودها الشمالية، ربما لـ"أيام قتالية" وليس لحرب شبيهة بحرب 2006.
وللمفارقة، فإن "حزب الله" اعتبر في بيانه تعقيبا على اغتيال العاروري- الذي يُرجح أنه كان يتولى التنسيق مع "حزب الله" وإيران داخل "حماس"- أن جريمة اغتياله هي استكمال لجريمة اغتيال رضا موسوي. وبذلك يحاول الحزب تأكيد "وحدة الدم" بين مكونات "محور المقاومة" كدلالة على "وحدة الساحات"، وفي الوقت عينه فإن الربط بين الاغتيالين يسهّل عليه التعامل مع جريمة اغتيال العاروري في معقله لناحية كيفية الرد وحجمه وتوقيته، باعتبار أن هذا الاغتيال ليس جزءا من سياق المواجهة المفتوجة في جنوب لبنان وإلا لكان الحزب مضطرا للرد الفوري والقوي عليه للحفاظ على تناسب الردع على الجبهة، بل يأتي في سياق أعم، إذ هو واحد من اغتيالات أخرى تطال شخصيات "محور المقاومة" في المنطقة، وبالتالي ما يسري على هؤلاء يسري على العاروري، لناحية "الرد في المكان والزمان المناسبين"، وهو ما يحيل إلى كلام نصرالله الأربعاء أن بين الحزب وإسرائيل الميدان والأيام والليالي.
ديناميكيات معقدة
كل ذلك يدل على أن اغتيال العاروري تتجمع عنده كل الديناميكيات المعقدة للحرب الدائرة إذ تتداخل فيه حسابات دقيقة ومركبة لكل طرف من أطرافها الرئيسين، بدءا من إسرائيل مرورا بالولايات المتحدة ووصولا إلى إيران ومعها "حزب الله"؛ فحسابات إسرائيل تتراوح بين تحقيق "صورة نصر" في غزة ومحاولة فرض أمر واقع جديد في المنطقة من خلال بناء منظومة ردع جديدة ضد "محور المقاومة" بدفع من حافزها القتالي الحالي والدعم الأميركي لها، وهو ما تعتبره "فرصة تاريخية" لتحقيق أهداف استراتيجية في الإقليم؛ وهذا أمر يعني إيران بالدرجة الأولى ولذلك فهي لا تستطيع الوقوف موقف المتفرج على إسرائيل وهي تضعف منظومة ردعها بالضربات المتتالية لوكلائها في المنطقة (وأيضا داخل إيران؟!). لكن إيران تريد في الوقت نفسه، ولحسابات استراتيجية أبعد مدى، الظهور بمظهر "القوة العاقلة" في المنطقة مقابل إسرائيل "المجنونة"؛ وهذا يدخل ضمن حساباتها مع الأميركيين الذين يقدمون الاستقرار على الحرب في الشرق الأوسط، لأنهم لا يريدون مزيدا من التورط فيه بينما يواجهون تحديات أهم حول العالم وبالتحديد من قبل الصين وروسيا.
كذلك فإن تل أبيب لا يمكنها القفز فوق قضية تحرير مختطفيها في غزة، وهذا أمر دخل في النقاش الإسرائيلي الداخلي حول جدوى اغتيال العاروري في هذا التوقيت تحديدا، وما إذا كان سيشكل ذريعة لـ"حماس" لعرقلة المفاوضات مع إسرائيل حول الأسرى ووقف إطلاق النار أم سيدفعها في النهاية إلى تقديم تنازلات.
ماذا لو اعتبرت إسرائيل أن لبنان هو الساحة الأنسب لتنفيذ اغتيالات ضد قادة "حماس" خارج غزة؟
سقف نصرالله
أما بالنسبة إلى "حزب الله" فإن أمينه العام كان واضحا في خطابه الأربعاء، في الفصل بين أمرين في قضية اغتيال العاروري: الأول استهداف الأخير بذاته، والثاني اغتياله في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ صحيح أن نصرالله قال إن اغتيال العاروري لن يمر من دون عقاب، لكن الأمر، كما أوحى "حزب الله"، لا يعنيه وحده بل يخص "محور المقاومة" ككل. واللافت أن نصرالله أوضح في خطابه الأربعاء أن قوى هذا المحور تتصرف بـ"استقلالية" كل بحسب نطاقه وتقدير مصلحته، وهو هنا يفصل بين الساحات، وبالتالي فإن الأمين العام لــ"حزب الله" يتبنى مقاربة مزدوجة لـ"وحدة الساحات"، إذ يفصلها تارة ويوحدها تارة أخرى.
أما اغتيال العاروري في بيروت فله حسابات أخرى تتصل بحسابات الردع بين الحزب وإسرائيل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يدل عليه تأكيد نصرالله الأربعاء أن "المقاومة" ليست مردوعة وإن كانت لا تزال تقاتل حتى الآن بحسابات مضبوطة، "لكن إن فكر العدو بأن يشن حربا على لبنان، حينها سيكون قتالنا بلا حدود وبلا ضوابط".
وبذلك يرفع نصرالله مستوى التهديد لإسرائيل إلى أعلى مستوى منذ اندلاع القتال، في مقابل تزايد الحديث عن نية إسرائيل استدراج "حزب الله" إلى الحرب مستفيدة من "الفرصة التاريخية". وهو ما يطرح تساؤلات عما إذا كان احتمال نشوب "حرب كبرى" بين الجانبين سيزداد خلال "المرحلة الثالثة"؟
حتى الآن، فإن المؤشرات والرسائل السياسية والنارية المتبادلة بين الأطراف وبالأخص الرسائل الأميركية لا تشي بأن توسع الحرب بين إسرائيل و"حزب الله" حتمي، لكن الأكيد أن إسرائيل تبدو أكثر حافزية من الحزب لـ"استباق الضربة"، وهذا ما يجعل احتمال توسع القتال خلال الفترة المقبلة أكبر، وبتوقيت إسرائيلي، خصوصا أن إسرائيل لا تزال تصر على تطبيق القرار 1701 الذي يقضي بانسحاب "حزب الله" إلى منطقة شمال الليطاني إن لم يكن بالديبلوماسية فبالقوة. أي أنها لن تقبل بأن يعود الوضع على حدودها الشمالية إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وهذا مسار معقد وطويل قد لا تستطيع تل أبيب انتظار تبلوره.
إلى ذلك وفي حال اعتبرت إسرائيل أن لبنان هو الساحة الأنسب لتنفيذ اغتيالات ضد قادة "حماس" خارج غزة في ظل تعقيدات تنفيذها في قطر أو تركيا (أوقفت تركيا 34 شخصا بشبهة التخطيط لعمليات لصالح الموساد)، فإن ذلك سيكون عامل ضغط إضافيا على "حزب الله" لأنه يمس منظومة ردعه في جوهرها. فالحزب لا يستطيع التأقلم مع وضع شبيه بما يحصل في سوريا؛ حيث تنفذ إسرائيل هجمات متتالية من دون رادع جدي، لكن هل موازين القوى في المعركة الحالية تسمح له بالرد بتناسب؟ فنصرالله قال إن "المقاومة" غير مردوعة، لكنه لم يقل إن إسرائيل مردوعة.