الحسكة- مثل باقي مناطق سوريا، لا تبدو المدن والبلدات، وحتى الأرياف، في منطقة شمال شرقي سوريا "المحكومة ذاتيا" على ما كانت عليه قبل عشر سنوات؛ فالإقليم الذي كان يوصف تقليديا بأنه "حديقة العالم القديم"، لكثرة الجماعات العرقية والدينية واللغوية والمذهبية القاطنة فيه، حدثت ضمنه تحولات ديموغرافية واضحة، اختفت على أثرها بعض التشكيلات الأهلية القومية والدينية، وزادت نسبة كتل أهلية أخرى، فيما يعيش بعضها الآخر قلقا من إمكانية فقدانه لوزنه الديموغرافي الذي كان. حدث ذلك بسبب الحرب والهجرة/التهجير والأحوال الاقتصادية، إلى جانب تأثير التبدلات المناخية وصعوبة الحصول على تعليم مناسب، بعد انهيار هياكل الدولة بسبب الحرب.
تقليديا، فإن الخريطة الديموغرافية في منطقة شمال شرقي سوريا كانت قائمة على أربعة ملامح رئيسة: كامل الشريط الشمالي على طول الحدود مع تركيا وبعمق يتراوح بين 30 إلى 100 كيلومتر، كان ذا أغلبية سكانية كردية مطلقة، مع انقطاع في المنطقة الريفية المحيطة ببلدة "تل أبيض". جنوب ذلك الشريط، وصولا إلى الضفاف الشمالية لنهر الفرات، كانت تتوزع عشرات القبائل العربية بكثافة متفاوتة. إلى جانب ذلك، فإن أعدادا وفيرة من "المسيحيين الآشوريين/السريان" كانوا مستقرين في مراكز المدن الرئيسة وعلى طول نهر الخابور، ومعهم جماعات أهلية متناثرة في كل منطقة، أبناء الديانة الإيزيدية في أرياف مدن الحسكة وعامودا والقامشلي، وأرمن في مراكز مدن كوباني/عين العرب والرقة والقامشلي والحسكة، وشيشان في مركز مدينة رأس العين وأريافها.
وحسب بعض التقديرات غير الرسمية، فإن مجموعة سكان منطقة شرق الفرات قبل عام 2011 كانت تُقدر بنحو 4 ملايين نسمة، وكان العرب يشكلون 60 في المئة منهم، والأكراد 30 في المئة، فيما كان الآشوريون/السريان يشكلون 5 في المئة، وباقي المكونات الدينية والقومية يشغلون نسبة الـ5 في المئة الباقية.
تجولت "المجلة" في كثير من مدن وبلدات وأرياف منطقة شمال شرقي سوريا، ولاحظت دلائل ومؤشرات لا تُحصى، تدل كل واحدة منها على حدوث تحولات ديموغرافية بليغة في ذلك المشهد، سواء على مستوى مناطق الاستقرار، أو نسب التوزيع الديموغرافي بين السكان المحليين.
اندثار خمس جماعات أهلية
على ضفتي نهر الخابور، اختفى الوجود الآشوري تماما، ولم يبقَ منهم سوى 500 شخص فحسب، كما أخبرنا مصدر سياسي من "المنظمة الآتورية الديمقراطية". بعد أن كانوا يُقدرون بأكثر من 20 ألف نسمة، موزعين على عشرات القرى المطلة على نهر الخابور ومركز مدينة "تل تمر". حدث ذلك عقب الهجوم العنيف الذي شنه تنظيم "داعش" على القرى الآشورية في ربيع 2015، قتل خلاله العشرات من الآشوريين، وأسر بضع مئات من المدنيين منهم، فيما تشن القوات التركية المتمركزة على بُعد عدة كيلومترات من مركز مدينة "تل تمر" هجمات مدفعية شبه يومية على المنطقة المحيطة بها، الأمر الذي تسبب في هجرة جماعية لسكان تلك المنطقة، خصوصا بعد تقديم دول مثل أستراليا وكندا تسهيلات خاصة لأبنائها.