تفوقت وقائع الميدان في غزة على كل ما وضعته حكومة الحرب الإسرائيلية من خطط لمسار الصراع مع الفصائل الفلسطينية. أفشلت المعارك المتنقلة من شمال القطاع الى وسطه وجنوبه كل الأهداف الموضوعة والمهل الزمنية المرتقبة لتحقيقها، حيث تحوّلت العملية العسكرية الى حرب إبادة بكل المعايير، وتحوّل معها الدعم الأميركي المفتوح إلى مأزق حقيقي لإدارة الرئيس جو بايدن بالرغم من مثابرتها على إعطاء المبررات للعدوان وإخضاع حلفائها في الحكومات الغربية لرغبتها.
يكمن المأزق الأميركي في عدم القدرة على وضع تصوّر لإنهاء الحرب، والإشكالية في هذا المأزق ليست في تغيير وقائع الميدان بل في توهّم القدرة على إحداث تغييرات جذرية في البنية السياسية والخلفية الثقافية للمواطنين الفلسطينيين، بما يفضي الى تركيب غزة جديدة لمرحلة ما بعد الحرب، منفصلة عن تاريخها وترتاح إسرائيل في جوارها.
تتطلع المنطقة إلى زيارة، لا زالت غير مؤكدة، لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نهاية الأسبوع القادم إلى إسرائيل والضفة الغربية والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر لبحث الأزمة في غزة. وبالتزامن تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية قبل ايام، أن مفاوضين من قطر أبلغوا مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية أن "حماس" “توافق من حيث المبدأ” على شروط تبادل رهائن ثانٍ ووقف لإطلاق النار. التصريحات الإعلامية أتت بعد اتصال هاتفي تلقاه أمير قطر الشيخ تميم بن حمد من الرئيس الأميركي "بحثا خلاله العلاقات الاستراتيجية بين البلدين الصديقين بالإضافة إلى أبرز الموضوعات الإقليمية والدولية ذات الإهتمام المشترك" وفقاً لوكالة الأنباء القطرية . لكنّ البيت الأبيض كان أوضح في بيانه إن "بايدن وأمير قطر ناقشا الجهود العاجلة لضمان إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين الذين تحتجزهم "حماس"، بما في ذلك المواطنين الأميركيين كما ناقش القادة الجهود المستمرة لتسهيل التدفق المتزايد والمستدام للمساعدات الإنسانية المنقذة للحياة إلى غزة"، مما أعطى للإقتراح القطري بعداً أميركياً ملزما .
يؤمّن البعد الأميركي للوسطاء القطريين إمكانية الذهاب الى صفقة أكثر تعقيداً من شأنها أن تجمع بين تسوية سياسية وانسحاب للقوات الإسرائيلية من غزة. وربما يقع في هذا الإطار ما نشرته قناة "كان" الإخبارية الإسرائيلية في تقريرها يوم الجمعة المنصرم إن رئيس الموساد الإسرائيلي ديدي برنيع أبلغ مجلس وزراء الحرب أن الثمن الذي يتعيّن على إسرائيل دفعه من حيث مدة الهدنة وإطلاق سراح السجناء سيكون أكثر تكلفة هذه المرة، وربما يقف التدخل الأميركي وراء مسارعة مجلس الحرب في إعطاء "الضوء الأخضر" لرئيس الموساد للمضي قُدماً في الإقتراح القطري.
ماذا في المواقف حيال المقترح القطري؟
وفي ما يتجاوز الدخول في تفاصيل المراحل التي تضمنها الإقتراح القطري والتي ستفضي في حال نجاحها الى الإفراج مرحلياً عن الأسرى الإسرائيليين مقابل إفراج تل أبيب عن الأسرى الفلسطينيين وإلى وقف لإطلاق النار، فإن إحداث اختراق في جدار الأزمة يؤكد على جملة مسائل: أولها، القناعة الأميركية بأن الرهان على الخيار العسكري وحده لن يفضي إلى إخراج الأسرى، كما أنه لن يؤدي إلى وضع تصوّر لمرحلة ما بعد الحرب التي تشكّل مسألة خلافية بين واشنطن وتل أبيب المصرّة على احتلال القطاع ريثما يتم تشكيل سلطة جديدة لإدارته. وثانيها، إخراج رئيس الوزراء الإسرائيلي من مأزق الإصرار على مواصلة القتال حتى تحقيق الأهداف التي أعلنتها حكومته مقابل تنازل حركة "حماس" عن عدم القبول بأي عملية تبادل قبل تحقيق وقف إطلاق نار نهائي ودائم.