الاقتراح القطري... المنطقة العازلة ومحور فيلادلفيا

قد يكون في التصعيد الوحشي الذي تقوم به إسرائيل على الأهداف المدنية والتجمعات السكانية في وسط القطاع وجنوبه والنجاحات التي تقوم بها الفصائل في التصدي وإلحاق الخسائر بالوحدات الإسرائيلية ما يؤكد على استحالة وجود بديل عن التفاوض. ربما يأتي في هذا السياق تكليف الولايات المتحدة لقطر تنسيق الدبلوماسية الأمريكية بين المتحاربين، فقطر هي الجهة الوحيدة القادرة على ترشيق مطالب الفصائل الفلسطينية في حين أن واشنطن وحدها قادرة على إلزام نتنياهو على التراجع.

وفي ما يمكن قراءته كخطوة باتّجاه التمهيد لعملية سياسية تلاقي الإقتراح القطري، قالت حركة "حماس" إن الفصائل إتفقت على تقديم عدة إقتراحات، منها "الدعوة للقاء وطني جامع ومُلزم يضُم الأطراف كافة دون استثناء، لتنفيذ ما تمّ التوافق عليه في الحوارات الوطنية السابقة، وأضافت إن الفصائل قد إتفقت على "تطوير النظام السياسي الفلسطيني وتعزيزه على أسس ديمقراطية عبر إنتخابات عامة حرة ونزيهة وشفافة للرئاسة والمجلس التشريعي والمجلس الوطني، ووفق نظام تمثيل  نسبي كامل ويشارك فيها الجميع، بما يعيد بناء العلاقات الداخلية على أسس ومبادئ الإئتلاف الوطني والشراكة الوطنية".

الإقتراح القطري والمرحلة الثالثة للعملية العسكرية؟

لقد كررت القيادتان العسكرية والسياسية في إسرائيل خلال الأسبوع المنصرم عزمهما على الإنتقال الى المرحلة الثالثة من العملية العسكرية، بعد أن حققت المرحلتان السابقتان أهدافهما. وتقضي المرحلة الجديدة بإعادة انتشار القوات الإسرائيلية بعد تثبيت "منطقة عازلة" على امتداد شرق القطاع وبعمق يصل إلى 1,5 كيلومتر تنتشر فيها ألوية احتياط لمنع الفصائل الفلسطينية من إجتيازها وتهديد غلاف غزة، على أن تنخفض بعدها وتيرة العمليات العسكرية لتتحول الى عمليات إنتقائية غير محدودة يقوم بها الطيران الإسرائيلي أو وحدات النخبة لضرب أهداف في العمق بما يشبه حرب استنزاف مفتوحة. ويعتقد القادة الإسرائيليون أن حرب الإستنزاف هي الوحيدة القادرة على إضعاف وإنهاء حركة "حماس"، وفي هذا الإطار يقول نتنياهو أن الحرب في غزة ستستمر عدة أشهر إضافية.

وفي سياق نقد الخيار الإسرائيلي الجديد، فإن تقسيم العملية العسكرية الى مراحل يجب أن يعني أن لكل مرحلة أهدافها، وقد تمّ تحقيقها قبل الإنتقال الى المرحلة التالية. في حين أن الأهداف المعلنة للحرب وهي تدمير حركة "حماس" وإطلاق سراح الأسرى لم يتم تحقيقهما، كما أنّ إنشاء وتثبيت "المنطقة العازلة" يستوجب اعتراف الفريقين المتقاتلين بها، وقيام طرف ثالث بإدارتها والإشراف عليها ومنع استخدامها، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بموجب اتّفاق أو ترتيبات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. أما الاعتقاد بأن ألوية الإحتياط قادرة على حماية المنطقة العازلة فهذا غير واقعي بعد أن عجزت ألوية النخبة عن الإحتفاظ بمواقعها في جباليا ومدينة غزة وسواها، ولا زالت الضربة التي تلقاها لواء غولاني في حي الشجاعية ماثلة في الأذهان وقد أدت إلى انسحابه من الميدان. يُفضي كل ما تقدم أن المرحلة الثالثة للعملية العسكرية لا يمكن تحقيقها ولا يمكن أن تكون إلا في سياق ترتيبات أمنية قد يُتفق عليها في إطار التفاوض حول الإقتراح القطري.

الإقتراح القطري ومحور فيلادلفيا 

يقول نتنياهو في مؤتمر صحافي "محور فيلادلفيا، أو بعبارة أدق نقطة التوقف الجنوبية في غزة، يجب أن يكون تحت سيطرتنا. يجب إغلاقه. من الواضح أن أي ترتيب آخر لن يضمن نزع السلاح الذي نسعى إليه".

فما هو محور فيلادلفيا؟ ولماذا يمثل تلك الأهمية بالنسبة لإسرائيل ؟
يُطلق إسم محور فيلادلفيا أو محور صلاح الدين، على شريط يمتد على الحدود بين مصر وقطاع غزة ضمن المنطقة "د" العازلة المحددة بموجب اتّفاقية السلام التي وقّعتها مصر وإسرائيل عام 1979، ويمتد من البحر المتوسط شمالاً إلى معبر كرم أبو سالم جنوباً، بطول نحو 14 كيلومتراَ. بقي المعبر  تحت السيطرة الإسرائيلية حتى انسحابها من غزة حيث تسلمته السلطة الفلسطينية عام 2005، بعد توقيعها مع إسرائيل اتّفاقية "المعابر" لتنظيم حركة العبور، ومن ضمنها معبر رفح الذي يربط مصر بغزة. 
وبهدف ترتيب تواجد مصري لقوات حرس الحدود تمّ توقيع اتّفاقية جديدة عُرفت بإسم "اتّفاقية فيلادلفيا" والتي تتماشى مع اتّفاقية "المعابر بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية" في العام ذاته، حيث اتفقت إسرائيل مع مصر على "الترتيبات المتعلقة بنشر قوة من حرس الحدود المصري في رفح الفلسطينية" لتسيير دوريات على جانب المحور المصري، لمنع التهريب والتسلل والأنشطة الإجرامية الأخرى، ونصّ الإتفاق على أن القوات المصرية ليست قوة عسكرية.
يعبّر المقترح الإسرائيلي بإنشاء المنطقة العازلة إلى جانب المطالبة بالسيطرة على محور فيلادلفيا بعد إنقضاء ثلاثة أشهر على إطلاق الحرب على غزة، عن تسليم واضح بعدم قدرة إسرائيل على الجمع بين الإستمرار بالإحتلال وتحقيق الأمن بالقدرات الذاتية. وإذ يعزو نتنياهو أسباب فشل جيشه في الحرب على غزة إلى استمرار تدفق السلاح والإمدادات اللوجستية الى القطاع عبر محور فيلادلفيا، فإنما يريد تطبيق مبدأ المنطقة العازلة على الحدود المصرية أيضاً وإن بشكل مختلف. تدرك إسرائيل أن تعديل وضع المحور وتحويله الى منطقة عسكرية دونه استحالتان، فهو يتعارض مع اتّفاقية السلام الموقّعة مع مصر  وهي لن تُقدم على تعديلها، كما يتعارض مع اتّفاقية الإنسحاب من القطاع التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2005. 
مما لا شك فيه أن الإندفاعة الأميركية خلف الإقتراح القطري تهدف الى إخراج إسرائيل من النفق وعدم إظهار الحرب على غزة وكأنها حرب أميركية ضد حركة "حماس". وفيما تبدو فرص نجاح الإقتراح القطري محدودة في التوصل الى وقف إطلاق نار دائم ومباشرة عملية سياسية، إلا أنه يأتي في لحظة حرجة لإنقاذ إسرائيل من مأزق وجودي وإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو فك الإشتباك مع "حماس" برعاية أميركية وعربية وتحت مسميّات مختلفة.