الجينز: حكاية لباس استمد زرقته من جنوة

خلال العقد الذي سبق الحرب العالمية الثانية، تبناه فنانون أميركيون، فعمل جيمس دين ومارلون بروندو وغاري كوبر وإلفيس بريسلي على ترويجه. ويوم ارتدته مارلين مونرو في أحد أفلامها، صار لباس الذكور والإناث على السواء. وهكذا، فخلال العقدين اللذين أعقبا الحرب راج عند مختلف الجماعات المهمشة، فصار علامة على إقصاء وتمرد، وانتشر بين أصحاب الدراجات النارية وجماعات الهيبي ومختلف الجماعات المتمردة، مما أدى إلى منع حمله في المدارس والمسارح والمطاعم. لكن، ما إن حلت الستينات من القرن الماضي حتى اكتسح الساحات جميعها. فأخذ يفقد هذا الطابع المتمرد الرافض للاندماج الذي كان يطبعه بين سنوات 1930-1960.

حمّى الأمركة

وقد عملت حمّى "الأمركة" على أن تجعل منه لباس الخاصة والعامة، صغار السنّ وكباره. فبعد أن كان رمز التمرد صار موضة من موضات العصر. بعد أن كان يستمد قيمته من خصائصه كثوب، ومن بخس ثمنه ومرونته وقدرته على التحمل ومقاومته للأوساخ، وبعد أن كان علامة على انتماء وهوية، وعلى تمرّد، أصبح يتّبع الموضة ومتطلباتها. وهكذا فقد صار يُقتنى رغبة فيه، وليس حاجة إليه.

وعملا بقانون الموضة الذي يقول "إن الحمقى يبتدعون الموضة، والعقلاء يتبعونها"، أخذ هؤلاء يبالغون في الزيادة من حدة خصائصه فظهر الجينز المغسول الذي يبالغ في حمل علامات التقادم من خروق ورقع وتغيّر في اللون، وزاد الطين بلة دخول المنتجين للاستجابة لهذه الموضة، فأخذ الجينز يتخذ مسحة جنسية، وظهرت صيغ مؤنثة تؤكد على الإغراء والإثارة.

وهكذا انتقل الجينز من الطبقة العاملة الأميركية، إلى لباس التمرد والاحتجاج، ثم إلى لباس الشبيبة الغربية، حتى غدا لباسا عالميا، للأعمار جميعها.

رغم أهمية هذه المتابعة للتطورات التي عرفها سروال الجينز، فإنها ربما لا تكفي لتفسير هذا الذيوع، وللمقاومة التي أبدتها هذه الموضة رغم كل التقلبات، وللتحدي الذي يبديه هذا المنتوج، والبعد المعَوْلم الذي اتخذه، وانتشاره دون تمييز أقطار ولا تقاليد ولا أعمار ولا طبقات اجتماعية. فحتى إن كان التفسير التاريخي يبرّر قوة الانتشار، فإنه لا يبرّر كون الجينز اللباسَ الذي يزداد سعره كلما ازداد تقادمه. لعل الأمر يتطلب تفسيرا سيميلوجيا، إضافة إلى هذه الملاحقة التاريخية. فما الذي يميّز هذا السروال العجيب؟

تناقضات تفرض نفسها

لا يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالرجوع من جديد إلى الخصائص التي ذكرناها، من قدرة على المقاومة، ومن مرونة وجانب عمليّ. كما لا يمكننا تبرير الذيوع بتدخل نجوم الغناء والسينما على الخط. صحيح أن لكل ذلك آثاره البليغة، لكنه ليس وقفا على سروال الجينز وحده. كثير من الألبسة عرفت ذيوعا مؤقتا بعد أن حملها ممثلون أو نجوم غناء، وحتى إن سلمنا بذلك، فإننا لا نستطيع أن نفسّر أن الجينز ربما هو اللباس الوحيد الذي يحمله صاحبه متفاخرا كلما ازدادت عليه مظاهر طول الاستعمال، وكثرت رقعه.

نعتقد أن هذا بالضبط هو التحدي الذي يرفعه هذا اللباس، فهو يفرض نفسه بالضبط بفضل ما يحمله من تناقضات. التناقض هو الذي ينفخ فيه الحياة المتجددة: وهو يجرؤ على أن يبرز تناقضاته، ولا يقمع طرفا منها على حساب الآخر. فيقدم نفسه، في الوقت ذاته، على أنه لباس العمال ولباس علية القوم، لباس الصغار ولباس الكبار، لباس رعاة البقر ولباس النجوم، لباس الذكور ولباس الإناث. إنه دوما قديم جديد، وهو يفخر بتقادمه مثلما يفخر بجدته. وهو لن يتقادم أبدا لأنه يجعل من التقادم غذاءه اليومي. وهو ما يفتأ يذكرنا بهذا. من هنا إصراره على إبراز المبالغات: المبالغة في القدامة، والمبالغة في الحداثة.

من هنا خلوده. فحتى إن تغيّر العالم، فهو يصمد ولا يتغير.