لا يزال للرواية العربية حضورها وتأثيرها في العالم العربي على الرغم مما ينوء به من صراعات ومشكلات، وذلك انطلاقا من قدرتها على تجاوز الحدود والتعبير عن المجتمعات العربية، كما ينجح طرف من الروائيين في التحليق إلى أفق الخيال أو العودة إلى التاريخ واستلهام لحظات خاصة منه، ربما تعكس طرفا مما نعيشه اليوم، وربما تكون محض محاولاتِ لاستشراف واقع آخر مغاير، من جهة أخرى يسهم عدد من الجوائز العربية في الكشف عن أعمال قد تغيب وسط زحام الكتّاب وقوائم الأعلى مبيعا.
هذه نظرة سريعة على بعض الأعمال الروائية التي لفتت الأنظار في العالم العربي خلال 2023 الذي يلملم أوراقه، علما أن هذا العام حفل بإصدارات جديدة سوف نتناولها تباعا مستقبلا.
"العقيد" لكوثر الجهمي
في مطلع 2023 طالعتنا الروائية الليبية كوثر الجهمي بروايتها الثانية "العقيد" والتي تواصل فيها ما سبق أن بدأته في روايتها الأول "عايدون" الحاصلة على جائزة مي غصوب في الرواية عام 2019. وفي هذه الرواية تنتقل بنا الجهمي إلى فترتين من فترات تاريخ ليبيا الحديث من خلال بطل روايتها العقيد علي المرابط ذلك المعارض الليبي الذي يقع أسيرا في حرب ليبيا مع تشاد، ويتمكن من السفر إلى أميركا ولكن يتم اغتياله هناك، نتتبع سيرته وحكايته من خلال ابنه "آدم" الذي يتقصى حكاية مقتل والده، ومن خلال تلك الحكاية تكشف لنا وجها آخر للثورة في ليبيا، وكيف كانت حياة الليبيين منذ انقلاب 1969 وحتى ما فترة ما بعد الثورة ونهاية معمر القذافي 2011، وعلى غرار الثورات العربية التي تقوم على آمال وأحلام عظيمة تتقارب النهايات وتتحوّل المسارات بها، فيفاجئ من كان من أنصار الثورة بانقلاب النظام عليه وعلى أتباعه، وليس الأمر مقتصرا على الثوري المناضل ذاك بل إنه ينتقل به إلى عائلته وكأنه لعنة تطارده لمجرد أن انتمى في يومِ من الأيام لأمل أو حلم في الثورة. استطاعت كوثر الجهمي أن تعبّر عن أبطال روايتها بصدق وشفافية، وأن تمنح لكل واحدٍ منهم صوته وأن تعكس بالتالي الكثير من واقع ليبيا في تلك الفترات العصيبة التي عاشتها وتعيشها حتى اليوم.
"رجلٌ تتعاقبه الغربان" ليوسف المحيميد
إلى مدينة غريبة تغلفها الثلوج من كل مكان فأصبحت "مدينة بيضاء ميتة، يأخذنا الروائي السعودي يوسف المحيميد الذي يرصد تغير العالم من حوله في المستقبل تحديدا عام 2048 حيث نتعرف معه على بطل روايته سليمان الزارع في أربع انتقالات زمنية مختلفة ومختارة بعناية، تدور حول مواجهة الناس للأوبئة والكوارث الكبرى طوال تاريخهم الطويل، مركزا على وقت جائحة كوفيد19وأثرها على العالم كله، ثم يعود بالزمن إلى عام 1939 ليرصد أطرافا من مواجهة الناس لمرض الجدري في الرياض في ذلك الوقت، والذي اجتمع عليهم بعد ذلك مع آثار الحرب العالمية، وفي الثالثة ينتقل بنا إلى 1945 وما بعدها حتى حرب فلسطين، ليرصد ما لا يعرفه الكثيرون عن مشاركة السعوديين في الحرب هناك، وفي النهاية يعود مرة أخرى للمستقبل الذي بدأ الحكاية فيه عام 2048 بفصل يحمل عنوانا دالا "الحكاية دائرة تتكرر".
لعل أكثر ما يميز السرد في هذه الرواية قدرة الكاتب على تكثيف المشاهد والتقاط التفاصيل الخاصة بكل مرحلة زمنية والحديث عنها بدقة وبساطة، لاسيما ما يتعلق بتفاصيل حرب فلسطين 1948 ومشاركة السعوديين في تلك الحرب التي ربما لم تذكرها روايات سعودية من قبل، وكذلك ما يتعلق بعلاقات الناس في أوقات الأوبئة والمصائب الكبرى التي يبدو أنها لا تكف عن التكرار منذالقدم ورغم كل ما وصل إليه العالم من تقدم وحتى اليوم.
"خزامى" لسنان أنطون
من العراق إلى أميركا، ذلك الصراع غير المتكافئ الذي يأخذنا إليه الروائي العراقي سنان أنطون في روايته "خزامى" ويستعيد من خلاله علاقة الإنسان بذاكرته وماضيه وأثر ذلك على حاضره، في قصةٍ تجمع بين بطلي الرواية الطبيب الكبير في السن سامي البدري الذي يسافر أخيرا إلى أميركا بينما يعاني من الألزهايمر، والشاب "عمر" الذي يتلمس طريقه الجديد ويسعى للتخلص من ماضيه بكل ما أوتي من قوة ولكن يبدو أن الماضي لايزال يطارده.
يبدو سؤال الهوية أحد الأسئلة الأساسية لرواية سنان أنطون والذي تدور عليه روايته، ويمتد زمنها من أيام حكم صدام حسين للعراق وما كان فيه من قهر وبطش وقمع للمواطنين والبسطاء، وكيف كان أثر ذلك كله على الجنود من جهة والمواطنين بعد ذلك من جهة، وكيف تبقى تلك الممارسات مؤثرة في حاضر الناس ومستقبلهم حتى بعد سنوات من سقوط الطاغية ونهاية حكمه، ينتقل الطبيب سامي البدري إلى أميركا وكذلك ينتقل عمر الشاب البسيط، ويسعى كل واحدٍ منهما لمواصلة حياته ولكن أخبار الوطن تصلهم، وعلاقتهم به لا تزال تشكل حياتهم، ورغم بعد الزمان والمكان، وبداية تأسيس الحياة الجديدة لكل واحدٍ منهما بطريقته إلا أن للقدر في النهاية حكمه وسطوته، ففي الوقت الذي يتمكن فيه الشاب من تغيير هويته يفاجئ بذلك الطبيب العجوز أمامه وكأنه مرآة لكل ما حاول الهرب منه طوال حياته.
"جمهورية الظلام" لفواز حداد
يواصل الروائي السوري فواز حداد عرض الحالة السورية بعد الثورة في 2011 وما أعقبها من دمار وحروب، بعد أن قدم "السوريون الأعداء" 2014، و "يوم الحساب" 2021، يطل علينا هذه المرة من خلال "جمهورية الظلام" التي تسعى إلى الكشف عن دهاليز رجال الأمن والمخابرات في النظام، وتدخل بكل جرأة إلى "القصر الجمهوري" لتكشف عن خططه ومؤامراته للسيطرة على الشعب بكل الوسائل الممكنة، ينتقل بنا الكاتب بين ما يعانيه المجتمع السوري من واقع قاسٍ مؤلم وديكتاتورية مسيطرة تفرض وجودها في كل مناحي الحياة، وبين تصورات ما يدور داخل أروقة أجهزة الأمن وفي غرف القصر الجمهوري المغلقة، من خلال أبطال الرواية المختلفين، وبين هذا وذاك يفترض وجود نظامٍ جديد للحكم يفرض نفسه، لا يشيخ ولا ينتهي، بل يستمر رغم كل هذه الحروب والدمار الذي يحيط به، ويبقى فيه الزعيم الخالد الواحد لا يمكن أن يمسسه مكروه.
يتداخل مع حكايات السلطة والقهر في جمهورية الظلام تلك العلاقة الخاصة بالأدب وعالم الأدباء، وكيف تسعى السلطة أيضا للسيطرة عليهم وتدجينهم، لاسيما بعد ظهور كاتب قصة يسعى للتبشير بالصورة والانقلاب على السلطة من خلال كتابته، فتنتقل إليه فئة خاصة من المراقبين ونرى كيف يتم مراقبة طائفة من الأدباء لكي لا يتكرر حدوث ذلك التصرف الذي تعده السلطة مهددا لوجودها رغم كل ما تتمتع به من قوة وسطوة.
"غواية الفناء " لهالة الصيّاد
أسرة عريقة وماضٍ جار عليه الزمن، تستحضره بطلة الرواية فجأة لتعيد الكشف عن أسراره، في رواية "هالة الصياد" الجديدة "غواية الفناء" التي تستكشف من خلالها سيرة ومسيرة عائلة إسكندرية هي عائلة "سري الجن" التي كانت تمتلك فندق المتروبولفي الإسكندرية، ولكن الزمان اختلف فضاع الفندق وتفرق الورثة وخفيت عن الأبناء العديد من الأخبار والأسرار، تستعيد بطلة الرواية ذلك الزمن، وتقودنا من خلال "رواية أجيال" مكتوبة بدقة عالية أحوال هذه الأسرة في مصر منذ سبعينات القرن الماضي وحتى العصر الحالي، وما جرى ويجري من تغيرات في أحوال المجتمع من خلال تلك الأسرة. تنتقل بنا هالة الصياد بين حكاية "آلاء" وعالمها وما واجهته من مشكلات داخل عائلتها الصغيرة، وبين تلك الحكاية التي تود أن تكشف أصولها وخباياها من خلال أراق ومذكرات جدها "داود"، فتعيدنا إلى الاسكندرية في ذلك الزمن الماضي وما كان فيه من أحداث وصراعات وحكايات، بالتوازي مع ما تواجهه تلك السيدة من صراعات اليوم ومشكلاته، فتعقد مثلا مقابلة بين ما سمعته من مظاهرات يناير 1977 وما عاشته بعدها بسنوات في 2011ـ، كما تشير إلى فترات المد الديني في مصر في التسعينات ومابعدها وكيف أثر ذلك عليها وعلى علاقتها بمن حولها، وفي كل مقابلة من تلك المقابلات نتعرف على حكاية تلك الأسرة التي كانت تسعى لاخفاء سيرتها والتواري بعيدا عن الناس، ويبدو للقارئ من تأمل الحكايات وكأن التاريخ يعيد نفسه بصيغِ مختلفة.
"أسفار مدينة الطين" لسعود السنعوسي
يعود الروائي الكويتي سعود السنعوسي إلى قرائه ومحبيه بعد نحو أربع سنوات من روايته الأخيرة "ناقة صالحة" الصادرة 2019، في رواية ملحمية كبرى من ثلاث أجزاء صدر منها الجزءين الأول والثاني بعنوان جانبي "سفر العباءة" و"سفر التبّة". الرواية تتناول جزءا من تاريخ الكويت القديم، ورحلات الصيد التي كان يخوضها رجال الكويت وصولا إلى السواحل الهندية من جهة، كما تتناول حياة القبائل العربية هناك وسيرة المجتمع والعلاقات بين الناس في ذلك الوقت المبكر، وكيف كانت التجارة والرحلات أساسا من أساسيات التعامل بينهم، وما كان لديهم من عادات وتقاليد مؤثرةعلى حياتهم، كما تكشف عن جزءٍ كبير مجهول من ذلك الزمن وما دار فيه من أحداث وما مر به الناس فيه من أزمات وصعوبات، وكيف كانوا يواجهون كل ذلك بصبر وتحمل، بالتوازي مع تلك الحكاية الأساسية يخوض السنعوسي تجربة أخرى في هوامش الرواية، حيث رواية أخرى تعاني من سيطرة الرقابة ويريد لها أن ترى النور بعيدا عنه، وكيف يتحايل الكاتب على الرقابة ويكشف في الوقت نفسه عن أثر ذلك الجهاز الذي لا يزال يطارد الكتابة والكتّاب في الكويت وفي كثير من الدول العربية، بين هذين الخطين تسير الرواية ويتمكن من خلالها الكاتب ببراعة من الإمساك بتلابيب القارئ والوصول به في النهاية إلى بر الأمان، رغم كل التشعبات والتفاصيل التي تملأ النص السردي وتجعله بحق ملحمة روائية خاصة، وتجعلنا في انتظار الجزء الثالث وما سيكشف لنا فيه من أخبار.
"وكسة الشاويش" لكمال رحيم
الرواية الأخيرة للروائي المصري الذي كتب عن القرية المصرية واليهود في مصر، وكانت نقلة جديدة في عالمه الروائي الثري، وافته المنية قبل أن يحتفل بصدورها، بعيدا من عوالم القرى وحكاياتها، وقريبا من مشكلات العائلة المصرية وأزماتها تدور أحداث رواية رحيم الأخيرة، والتي تأتي على لسان بطلها الابن عادل العطفي الذي يحكي مشكلته أو مأساته مع والده الشاويش الذي مات متأثرا بمرضه، في ما يكتشف الابن علاقة آثمة جمعت بين أمه وبين رجل آخر، نغوص في حكاية ذلك الفتى وعلاقته بوالده وأمه وجيرانه وعالمه، وكيف كانت محاولاته لنسيان ذلك الماضي وذلك الإثم الذي ظل يلاحقه حتى يقرر أن يواجهه في النهاية ويعود للانتقام.
وعلى الرغم من أن الرواية قصيرة نسبيا إلا أن الكاتب استطاع من خلالها أن يصف عالم بطل الرواية ويجعل القارئ متعاطفا مع مشكلته ومأساته، كما أضاف إلى ذلك اختيار لحظة زمنية شديدة الخصوصية وهو تحديد وقت حرب الاستنزاف في الأعوام 1969 وما بعدها، وكيف يمكن للقارئ أن يوازي بين وكسة ذلك الشاويش وما حصل له وبين النكسة التي منيت بها مصر والعالم قبيل تلك السنوات مباشرة، بالإضافة إلى إطلالة عامة على أحوال البسطاء بين الريف والمدينة في ذلك الوقت من ستينات القرن الماضي وما كانوا يعانونه من مشكلات.