بلا شك أن سر شهرة الفيلسوف الفرنسي ديكارت المنتمي إلى القرن السابع عشر، هي عبارته: "أنا أفكر إذن أنا موجود". إلا أن بحوثا جديدة تثبت العبارة للإمام الغزالي والذي عاش قبله بخمسة قرون: "أنا أريد إذن أنا موجود قادر"، وقال أيضا: "الشك أول مراتب اليقين"، وقد ناقش بعض الباحثين حول هذا التحوير، على الرغم أنني لا أرى تحويرا، والذي يعني تعديلا أو تغييرا، فالعبارةُ كما هي، وبذات المعنى.
ويُعد الغزالي الذي مر بمراحل تفكير مختلفة في حياته، قد كتب عن الشك واليقين حين كان في حالة بحث، كما هي حال الفلاسفة في مراحلهم التجريبية والبحثية، وكما نعلم غَيّر فيما بعد أسلوبه المنهجي والعلمي في التفكير، بدليل كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" الذي يحاول إثبات عجز الفلاسفة عن إثبات وجود الله،ويرد عليه الفيلسوف ابن رشد-وبعد عقود-بكتاب آخر، عنوانه "تهافت التهافت"، منتقدا حججه، ليصبح الكتابان"تهافت الفلاسفة" و"تهافت التهافت" مناظرة بين فيلسوفين، ومستمرة عبر الزمن، ومواجهة بلاغية عقلية اتخذتها أوروبا منهجا في جامعاتها، وخاصة جامعات باريس، بالمقابل رفض أغلب علماء المسلمين في الشرق وجهة نظر ابن رشد،بالرغم منوضع دلائل وشروحات تثبت أن الفلسفة تساعد على كيفية دراسة الدين والكتب السماوية وخاصة القرآن، وأن الفلسفة ضرورية للوصول إلى وجود الله.
ومنذ ذلك الوقت لا ينكر المثقف الأوروبي، بأن مصدر الفلسفة الأوربية الحديثة هو الفيلسوف والطبيب والقاضي ابن رشد، فلم تكن الفلسفة الأوروبية قبل العصور الوسط ىسوى فلسفات كلاسيكيات بمرجعيات عقائدية دينية، أما ما يسمي بالفلسفة اليونانية القديمة كمصدر فكري أُولى لأوروبا والعالم، فهذا صحيح، لكنه لم يكن متوفرا بلغته الإغريقية الكلاسيكية الصعبة، بل كانت غير مفهومة حينها للأوروبيين المتعلمين، وكانت شبه منسية، حتى ترجمها ابن رشد إلى اللغة العربيةبعد أنقرأ معظم أعمال أرسطو الفلسفية والمنطقية، وأصبح نموذجه الفلسفي، وأُعجب به، وأثر على تفكيره العلمي والنقدي، ولأن ابن رشد أيضا طبيب وفلكي، أيد منهج أرسطو في الطبيعة والماورائيات، وقوى الكسوف والخسوف، وتأثيرهما على الأرض، وأخذ هذا التأثير يتحول إلى العوالم الطبيعية المحتملة، والأبدية(أي الخلود)، ليكتبَ تفنيدا ضد أفكار الغزالي.
أصبح بيننا وبين الفيلسوفين ومناظرة التهافت، مسافة زمنية طويلة، ومع ذلك كشفت هذه المناظرة سرقة الأطروحات الفلسفية، والأقنعة الكاذبة
والمعلوم أن ابن رشد حين بدأ بتلخيص أعمال أرسطو والتعليق على آرائه، وكذلك أعمال الآخرين من الفلاسفة أمثال أفلاطون وبطليموس وإقليدس وجالينوس، علق على شروحاتهم تعليقات فلسفية، فسيرة ابن رشد كلها انشغال بتلك الشروحات، والتي امتدّت طوال حياته، حتى أنه عُرف في الأندلس باسم المُعلق، حيث كتب ثلاثة تعليقات عن أعمال أرسطو، لتتوافق مع كل عصر، فهناك تلخيصات مبكرة لحياة أرسطو، وتلخيص آخر عن الحياة الوسيطة لأرسطو، أما أطول التفسيرات، فكان يضع تعليقات على نمط تفسير القرآن، لتظل محاولات ابن رشد بارزة، للتوفيق بين الفلسفة الأرسطية والدين الإسلامي.
ولعل أبرز ما يجعلنا نفهم شخصية ابن رشد العلمية والشجاعة، سعيهإلى إزالة التأثيرات الأفلاطونية الحديثة، بعد وضع شروحاته، فكما يبدو أنه لم يكن معجبا به، مثل الغزالي، ونستبين احتجاجه على آرائهما معا، خاصة ما يتعلق بالعقل الفردي والنجاة من الموت لأفلاطون، ليصمم ابن رشد أن الخلود عام وليس فرد، وأيضا نقده الغزالي وردّه عليه في كتاب تهافت التهافت.
هذه المناظرات بتفاصيلها البلاغية، والتمرين على المواجهة، ونظام الخطاب، ومسؤولية القول... مفقودة اليوم عربيا بسبب السياسة، والخوف من الاضطهاد، وعدم الشعور بالحرية، ويذكرنا هذا الفقد بمقولة ابن رشد: "الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى العنف، هذه هي المعادلة...".
وعودة لديكارت الفرنسي الذي قرأ الكتابين والمناظرتين، فأصبح الاستنتاج بأنه لجأ فيما بعد إلى قراءة بقية كتب الغزالي غير المترجمة، ليؤكد الباحث والكاتب العراقي عماد الدين الجبوري في مقال علمي له، كيف استلهم ديكارت كتاب "المنقذ من الضلال"للغزالي، وهو منهج للشك في بدايات الغزالي، وفيه كل أفكار ديكارت المطروحة التي قرأها العالم الحديث، دون أن يشير ديكارت إلى مصدر اقتباساته الغزالية.
وأخيرا أصبح بيننا وبين الفيلسوفين ومناظرة التهافت، مسافة زمنية طويلة، ومع ذلك كشفت هذه المناظرة سرقة الأطروحات الفلسفية، والأقنعة الكاذبة.