اختفت أفكار النفعية عن العالم، وصولا الى ما يُسمّيه الكاتب "الروح الإنكليزية"، مُشيرا إلى الروح العامة للثقافة الفلسفية الإنكليزية، التي ارتبطت بنشأة الفكر الفردي، والاقتصاد الرأسمالي، والمذهب النفعي.
مع هتشسون (1694-1746) تعود فكرة النفعية كأساس للتفكير. هتشسون كان واضحا مرة أخرى، فالخير هو اللذة والشر هو الألم. تأسيس هتشسون سيكون مفتاحا لاثنين من أشهر فلاسفة القرن الثامن والتاسع عشر على التوالي، جيرمي بنتام (1748-1832) وجون ستيوارت مل (1806-1873). هنا سنكون أمام ولادة تفاصيل المذهب النفعي بدل الاكتفاء بجعله نزعة في التفكير، ليكون تأصيلا للنظرية النفعية بأعظم أبعادها وتجلياتها، وكشفا لمدركات النظرية وطريقتها في التفكير، ومواجهاته الأخلاقية والمعرفية أمام الفلسفات المثالية واﻷخلاقية.
يشير الكاتب إلى هذا التغيير: "لقد أضحت المنفعة مع بنتام ومِل نظرية أخلاقية غريبة تربط بين صحة السلوك ونتائجه، فالفعل يكون أخلاقيا إذا قاد إلى تحقيق نتائج أفضل. لقد استبدل هؤلاء الفلاسفة المآلات بالمبادئ". هنا يكون الانقلاب الأهم في تاريخ الفلسفة، أي الخروج من تسلّط الفكرة الأخلاقية على الفلسفة، فالتفكير الأخلاقي أو البحث عن غاية أخلاقية لم يعد ذا جدوى أو أهمّية، أمام لذّة الفرد وسعادته التي ستصبح مصبّا للتفكير الإنساني.
يركّز الكتاب على الأثر الإنكليزي لبنتام ومِل، فهو يجعل المنفعة واللذة مقاسا حسابيا، مُبعدا التصرفات الإنسانية عن أي موضوعية في اختيار التصرفات، فالإنسان عليه أن يتصرف بمقدار تلذّذه، ويختار ما يكون أكثر لذة وسعادة بالنسبة له. والإنسان بالنسبة الى بنتام مجرد آلة حسابية لمقدار اللذة، ما يجنيه من فائدة ولذة من تصرفاته هو السعادة وهو ما على اﻹنسان فعله، أي أن يجني سعادته.
أما مِل فخالف بنتام، وقاوم تطرّفه، فحاول على طريقة أفلاطون فرز أنواع السعادة واللذة التي قد نجنيها من وراء تصرّفاتنا. وضع مِل للكثير من التصرفات الإنسانية أبعادا أخلاقية صرفة، فلا تكون المنفعة فيها مادية فقط، بل معنوية. أي تكون فيها المنفعة أو اللذة التي يجنيها الإنسان دون غلواء الأنانية والاستفادة المنفعية الصرفة. الاستماع إلى الموسيقى، بالنسبة إلى مِل، يحقق منفعة. أي أنها أفكار له أو لغيره من خلال الأعمال التي تؤسّس للفعل الصائب كتقليل المنفعة من أجل الخير العام. واختلاف الفوائد اللذية وما نختاره من اللذة بالنسبة إليه يحمل جانبا عقليا يكافئ عقلنا وتفكيرنا الخيّر، أي أننا بالضرورة نملك مقاسا موضوعيا للذة والمنفعة وعلى العقل أن يكون حاكما، وليس الحساب الكمي على طريقة بنتام.
ينتقل الكتاب إلى دراسة المذهب الناشئ بقرب المذهب النفعي وهو المذهب الواقعي، فالكتاب في الأصل يعرض المذهب النفعي وهو يواجه المثالية الأخلاقية في كل مرحلة من تطوره، المثالية الأخلاقية التي تجعل للإنسان غايات لا بد أن يعتقد أو يؤمن بها من أجل قيامه بالتصرفات التي يقوم بها، خلافا للنفعية التي تقيس الأمور من منطلق نتائجها ومقدار السعادة التي تحققها للإنسان. صدمة المذهب الواقعي النفعي تنقلنا إلى تساؤل كانط والمدرسة الألمانية في الأخلاق. الكتاب يُنشئ إشكالية إنسانية بين المدرستين، ليس من خلال تعارُض النظريتين، بل من خلال عرضهما بوصفهما اختصارا للتاريخ الأخلاقي أيضا، وضمن إشكالية لا تُحلّ نظريّا. فنظرية كانط تقف في الكتاب كتمثيل لمبدأ عقلاني مجرد طرحه كانط، في أن يكون لكل فعل يقوم به اﻹنسان معنى أخلاقي وغاية أخلاقية، ولهذا الفعل سِمة الكونية والعمومية، انطلاقا من مبدأ الواجب الأخلاقي المطلق. فكانط يربط بين الأخلاق والفعل الإنساني، دون النظر إلى النتيجة أو استفادة اﻹنسان اللذويّة من تصرّفاته، ودون أي قياس مادي لحجم المنفعة أو السعادة على الطريقة النفعية، "ضرورة أداء الواجب لذاته، أي من أجل الواجب، فالواجب هو الخير في ذاته، وهو الباعث الذي يدفع كل الأفعال دون النظر في النتائج التي تنجم فعلا". انقسم العالم الفلسفي بين المدرستين، وكان اختيار كانط عبر الكتاب تلخيصا من الكاتب لمدارس فلسفية أخلاقية سابقة لكانط، في مواجهة نفعية إنكليزية نامية وأفكار ستغير العالم الحديث.
أي إنسان يُمكن رصده الآن؟
يفرد الكتاب للأثر الاجتماعي للنظرية النفعية عرضا ونقدا واضحين، لكن هذا النقد يأتي من نتائج النظرية ذاتها وآثارها اجتماعيا ومقولاتها التي حاولت تطبيقها داخل البعد الاجتماعي، والتي تُعلي أنانية الفرد ومصلحته الخاصة وتقييمه لسعادته على حساب أي إيثار أو خيرية من الممكن التفكير فيها أو اختيارها. فالنفعيون لا يقتنعون بأي علاقة اجتماعية بين اﻷفراد إن لم تقُم على المصلحة، فمن وجهة نظر بنتام ستعود المنفعة للإنسان عبر إسباغ شعور إيثاري لا بد منه على الأنانية، لكن هذا الإيثار هو قناع للأنانية والمنفعة الخاصة لتستفيد من الآخرين وتستخدمهم. في نهاية المطاف يحسب بنتام أي منفعة عامة ضمن منهج حسابي للأكثر أو الأقل. فما يفيد أكثرية الناس هو الخير العام وهو السعادة، دون أي فكرة إنسانية أو أخلاقية يمكن تعميمُها، فالمفيد والسعيد يُحسب رقميا وبعدد المستفيدين منه. أما مِل فيجعل المنفعة الجمعية مدارا في ما يسمّيه المصلحة العامة، أي وضع للغلواء واﻷنانية بُعدا يمكن قياسه مع خير الجماعة، على مشروطية المصلحة العامة التي تكون حصّتُها من المنفعة أمرا لا بد منه لحساب منفعة الفرد نفسه. فقياس الجماعة يكون على المصلحة العامة عند مِل لحماية الفرد نفسه، دون اﻹخلال بالمبدأ في الحفاظ على سعادة الفرد وجعل السعادة واللذة الشخصية أساسَ كل سلوك. مِل يضفي على التضحية بالذات من أجل سعادة اﻻخرين قيمة كُبرى، ويعطي الإيثار نحو اﻵخرين قيمة فُضلى، ﻷنها لذّة معنوية خاصة تنعكس في الجماعة، وصولا إلى رؤية بنتام في جعل اﻹنسان كائنا اجتماعيا، وبذلك لا بد من التشارك مع اﻵخرين لصُنع السعادة. فالسعادة وإن بدأت من الذات الفردية لا بد لها من أن تتجانس مع سعادة اﻵخرين.