غالبا ما تُعتبر مدينة طرابلس في لبنان الشمالي، المدينة الأكثر تعبيرا عن النبض السني اللبناني؛ فالتوازنات المذهبية والطائفية طبعت المدن اللبنانية بطابعها. وهذا ما تزايد في سني الحرب الأهلية الطويلة وبعدها؛ فصار يقال إن جونيه، على ساحل كسروان، عاصمة الموارنة. وزحلة عاصمة الكاثوليك في الشرق. والمختارة عاصمة الدروز. وأخيرا جعل "حزب الله" ضاحية بيروت الجنوبية عاصمة الشيعة.
ويقدر عدد سكان طرابلس- المدينة الثانية في لبنان من حيث المساحة، والأولى من حيث الكثافة السكانية- بنحو 850 ألف نسمة. ويشكل السنة نحو 80 في المئة منهم، مقابل 10 في المئة من العلويين. وكانت نسبة المسيحيين 10 في المئة أيضا، لكنهم تضاءلوا كثيرا في المدينة أثناء الحرب وبعدها. وهناك من يشبه تركيب طرابلس الديموغرافي، وعاداتها وتقاليدها، بتلك المعروفة في مدن سورية وتركية.
وطرابلس هي المدينة بالنسبة إلى ريف الضنية والمنية وعكار. وهذه أكثرية سكانها من السنة. فيتجاوز بذلك عدد السكان السنة شمالي لبنان مليون نسمة (أكثر من نصف سنة لبنان) لديهم 11 مقعدا في البرلمان، هي أقل من نصف مقاعد السنة بقليل (27 مقعدا). والمدينة التي شغل سياسيون منها منصب رئاسة الحكومة السني، تعاني اليوم من خواء سياسي، في أصدق تعبير عما أصاب السنة بعد عزوف سعد الحريري عن السياسة، فتراجع حضورهم وتأثيرهم السياسيان إلى مستويات غير مسبوقة منذ تأسيس الدولة اللبنانية سنة 1920.
بين تركيا وفلسطين وإيران
الخواء السياسي في طرابلس اليوم من وجوه الشعور بـ"مظلومية سنية"، شكل اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد (1921-1989) ورفيق الحريري (1944-2005) حلقتها الدامية. واستُكملت تلك "المظلومية" بوأد الثورة السورية التي ناصرها الطرابلسيون بحرارة. ولا تزال طرابلس وجوارها تحتضنان السوريين الهاربين من الجحيم بتلاوينه العسكرية والاقتصادية. وها هي طرابلس تبحث عن أي "نصر" معنوي، حتى ولو في الصين، لتدفع عنها شعورها الممض بالمظلومية؛ فبدا لها أحيانا أنها وجدته بانتصارات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان المتوالية. أما عملية "طوفان الأقصى" التي جرت على غزة ما يشبه حرب إبادة إسرائييلية، فقد أعادت تزخيم حضور القضية الفلسطينية في طرابلس: لبست المدينة الكوفية الفلسطينية وانتشرت في شوارعها أعلام فلسطين، وشهدت تجمعات رمزية ومظاهرات.