يعد هذا الحكم بالفعل انتصارا قضائيا باهرا أنقذ البلاد من ورطة مالية كانت محل مخاوف حقيقية باعتبار أن تعويضا بمليارات الدولارات كان ليكون بمثابة ضربة قاضية في ظل الوضع المالي الراهن للبلاد.
أفضى القرار التحكيمي النهائي الى خفض قياسي في قيمة التعويض. فوفق المكلف العام بنزاعات الدولة (محامي الدولة) فإن نسبة مبلغ التعويضات الذي أقرته الهيئة التحكمية تقدر بـ 0.003 في المئة من قيمة طلبات خصم الدولة.
وقد طالب رجل الأعمال التونسي الشهير عبد المجيد بودن ( تونسي الجنسية) أو "خصم الدولة" مثلما اصبح يُلقّب إعلاميا، بحسب وزير أملاك الدولة، بتعويض تقدر قيمته بـ 12.6 مليار دولار (37 مليار دينار) أي ما يقارب نصف موازنة تونس لعام 2024 (28.7 مليار دولار).
البنك التونسي - الفرنسي في العاصمة التونسية
وأكد مصدر مطلع وقريب من الملف لـ"المجلة" أن بودن طالب بتعويضات تعادل القيمة السوقية للبنك والبنك العربي لتونس معا، اللذين يعدان أهم مصرفين تجاريين للقطاع الخاص في تونس.
نزاع قضائي مر على 6 رؤساء للجمهورية
يعدّ هذا النزاع القضائي من أقدم الدعاوى التحكيمية المنشورة لدى الهيئة التحكيمية التابعة للبنك الدولي، وتعود جذوره الى عام 1982. حسابيا مرّ هذا الملف بمكاتب ستة رؤساء جمهورية، وما لا يقل عن 15 رئيس حكومة من حقبة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حتى عهد الرئيس الحالي قيس سعيد.
من المهم الإشارة الى أن "البنك الفرنسي التونسي" ليس أي بنك، فهو يحمل أكثر من رمزية، وهو أقدم المصارف، أسسه عام 1879 الفرنسي راوول دانينوس، وهو أول بنك جرى تأميمه ضمن مسار "تونسة الاقتصاد" في بداية بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، وهو أول بنك يعلن افلاسه في تاريخ المنظومة المصرفية التونسية.
تأمم البنك في بداية الستينات ثم اطلقت عملية خصخصته عام 1980 من خلال رفع رأس ماله وفتحه للاستثمار الخاص. ومُنحت الترخيصَ الشركةُ العربية الدولية للاستثمار التي كانت انذاك تمتلك 4.68 في المئة من مجموع القطاع المصرفي التونسي، لاقتناء 80 في المئة من ملكية البنك، في مقابل 750 ألف دولار (2.5 مليون دينار) .
وعلى الرغم من تحويل قيمة المبلغ الى المصرف المركزي التونسي في الآجال المحددة، أقدمت السلطات التونسية عام 1982 على اصدار قرار بتجميده مع إلغاء رفع رأس مال البنك، وكان ذلك منطلق النزاع بين الدولة التونسية والشركة ممثّلة في رئيس مجلس ادارتها رجل الاعمال التونسي عبد المجيد بودن.
أُغرق البنك منذ عام 1989 بقروض بلا ضمانات وبلغت خسائره 700 مليون دينار (250 مليون دولار). وقال محمد بودن محامي الشركة في تصريح لقناة "فرانس 24" انه تم السطو على البنك وافراغه بقروض بلا ضمانات بعدما كان من أفضل المصارف في البلاد.
واتهم المحامي "عائلات اقتصادية نافذة" بالتدخل لمنع استلام الشركة ملكية البنك وبأنها فرضت التراجع لمنع فتح باب المنافسة. واكد انه استعملت "طرق ملتوية" لانجاح هذا المخطط على غرار الملاحقات القضائية في حق رئيس مجلس إدارة الشركة الذي تمت ادانته بارتكاب جرائم صرف وسجنه، إلى أن خرج من السجن اثر ابرام صلح مع السلطات التونسية، ليهرب من ثم إلى خارج البلاد واطلاق مسار التحكيم الدولي لاستعادة حقوقه.
حسمت دوليا ومستمرة محليا
شهدت بداية عام 2022 إعلان إفلاس "البنك الفرنسي التونسي" واطلاق عملية تصفيته بعد سنتين مع صدور حكم (تم استئنافه) لصالح خصم الدولة التونسية، قضى بإقرار تعويض قيمته مليار دولار (3 مليارات دينار تونسي). وأكد عز الدين سعيدان الخبير الاقتصادي ان افلاس هذا البنك هو أول حالة إفلاس كامل لمؤسسة مصرفية في تاريخ الجمهورية التونسية، وقال انه أساء الى سمعة مركز تونس المالي وسمعة مصرفها المركزي باعتباره المشرف على القطاع المصرفي.
وكشف سعيدان في تصريح لإذاعة "جوهرة أف أم" المحلية ان الخسائر الناجمة عن عملية تصفية "البنك الفرنسي التونسي" ستكون في حدود 500 مليون دينار (180 مليون دولار) تضاف اليها 270 مليون دينار (90 مليون دولار) بصيغة قروض غير مستخلصة.