منذ بداية حرب غزة تبيّن أن الاقتصادات العربية لا بد أن تتأثر بها سلباً أو ايجاباً. كانت هناك مراهنات على ارتفاع اسعار النفط نتيجة المخاوف الجيواستراتيجية واحتمالات توقف الامدادات النفطية وتراجع تدفق الغاز إلى الأسواق المستهلكة. لكن ما حدث هو تراجع الأسعار بفعل انخفاض الطلب في الصين بسبب الأزمة الاقتصادية هناك والمشكلات التي تعاني منها المؤسسات المالية نتيجة انكشافها على قروض عسيرة السداد من قبل المدينين.
لذلك ظلت أسعار النفط تتراجع حتى وصلت إلى 75 دولاراً للبرميل، نفط البرنت، وتقريباً 71 دولاراً للبرميل، نفط غرب تكساس (14 ديسمبر/كانون الأول). يمثل هذا التراجع مشكلة للمالية العامة لدى الدول المنتجة للنفط في الخليج وغيرها مثل العراق والجزائر وليبيا.
هذه الدول، وإن تمكن بعضها من تنويع قاعدة الإيرادات إلى درجة ما، لا تزال مكشوفة أمام الاقتصاد النفطي. كما أنها تسعى لتنفيذ مشاريع كبيرة بما يتطلب انفاقا رأسماليا مهما، ناهيك بالانفاق الجاري، المنفلت في بعضها، وليس هناك من كوابح للحد منه.
لذلك، لم تؤدّ حرب غزة، على العكس من حرب أوكرانيا، في بداياتها، إلى ارتفاع في الأسعار. لكن حرب غزة تمثل تحدياً للاقتصادات العربية، بما يؤكد أهمية إنهائها في أسرع وقت، ليس للاعتبارات الانسانية فقط، على الرغم من أولويتها، وليس فحسب للخراب الاقتصادي الذي حدث في غزة، ولتدهور الأوضاع المعيشية والصحية لسكانها، ولكن أيضا للتأثيرات الصعبة التي باتت تعاني منها البلدان العربية، حيث تأثرت السياحة فيها بشكل مباشر، وتراجعت حركة السفر إلى بلدان منها مصر والأردن ولبنان.
تأثر التجارة البحرية بالتحرشات الحوثية
تؤثر تحرشات الحوثيين في البحر الأحمر على الملاحة وتعطل مرور السفن وترفع تكاليف التأمين. تؤثر هذه التصرفات غير المسؤولة على اقتصاديات الدول العربية مثل عمليات مرور السفن في قناة السويس وتعطيل رحلات ناقلات النفط أو حدوث عمليات تخريب ربما تؤدي إلى تلوث مياه البحر الأحمر.
حرب غزة تمثل تحدياً للاقتصادات العربية، بما يؤكد أهمية إنهائها في أسرع وقت
إذا كان المقصود إلحاق خسائر بالإسرائيليين، فإن تلك الخسائر تأثر بها حتى الآن أصحاب السفن والبلدان العربية المجاورة لليمن، ولا يتوقع أن تؤدي إلى تغيير في السياسات الإسرائيلية.
تعدّ التجارة البحرية ذات أهمية للاقتصاد العالمي وهي تتأثر بالأعمال العدائية والحربية بشكل عام، وقد حدث ذلك في الحربين العالميتين الأولى والثانية والحروب العربية الاسرائيلية في الأعوام 1956 و1967 و1973. ومنذ نشوب المعارك في غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حذرت منظمة التجارة الدولية على لسان رئيستها نجوزي أوكونجد ايوبالا "من أن الصراع بين اسرائيل والمقاومة الفلسطينية في غزة سيكون له تأثير كبير حقاً على تدفقات التجارة العالمية الضعيفة إذا اتسع نطاقه في المنطقة".
تأتي الهواجس من الحرب في غزة خشية عودة التضخم وزيادة التكاليف الاقتصادية التي سببتها الحرب في أوكرانيا، في وقت تعاني دول عربية من أوضاع اقتصادية ومالية مستعصية، بما يؤكد امكانات ارتفاع أعداد الفقراء وتدهور مستويات المعيشة في هذه البلدان. الدول العربية التي تعاني من الصراعات الأهلية مثل سوريا واليمن وليبيا والسودان، ستزداد بؤساً، وستتدهور معدلات التنمية وتتعطل فرص الانتعاش.
الهواجس الاقتصادية من حرب غزة تتعاظم خشية عودة التضخم، في وقت تعاني دول عربية عدة من أوضاع مالية مستعصية تنذر بارتفاع أعداد الفقراء وتدهور مستويات المعيشة
من جانب آخر أظهرت دراسة للأمم المتحدة أن التكلفة الاقتصادية للحرب في غزة قد تؤثر على البلدان المجاورة، لبنان ومصر والأردن، وقدرت التكلفة بنحو 10 مليارات دولار خلال 2023، وربما تدفع ما يقارب 230 ألف نسمة إلى حدود مصر. هناك توقعات متشائمة في شأن تأثيرات الحرب إذا استمرت لمدة ستة شهور أخرى. تتحمل مصر كما هو معلوم، تكاليف مباشرة من خلال تقديم العون الغذائي والطبي والإنساني لأهالي غزة، وتجند أعدادا من العاملين المصريين لأداء هذه الواجبات الحيوية. كذلك أخذت توفر الوقود، كلما سمح الإسرائيليون بذلك.
لا شك في أن العلاقات بين مصر وقطاع غزة متشابكلة منذ زمن طويل، وتجد مصر نفسها في موقع المسؤولية لتوفير الدعومات المختلفة لسكان القطاع المهددين في أوضاعهم الحياتية الأساسية. وقد تحملت السعودية والإمارات والكويت وقطر وعمان توفير الدعم المساند لما يقدمه المصريون، ولا بد أن نتوقع المزيد من الدعم والتكاليف غير المنظورة.
الثمن الاقتصادي الفلسطيني الهائل
يدفع الاقتصاد الفلسطيني الهش ثمناً باهظاً لهذه الحرب، فالضفة الغربية وقطاع غزة تعتمدان بشكل كبير على المساعدات العربية والدولية، وعندما نشبت الحرب تأثرت عمليات الانفاق على المشاريع الحيوية والرعاية الصحية والنظام التعليمي ومشاريع البنية التحتية. غزة، التي ظلت تحت الحصار منذ استيلاء "حماس" على السلطة فيها عام 2007، تواجه اختناقاً حاداً. وأدت الحرب فيها إلى تدمير منهجي للمباني والمؤسسات والطرق والبنية التحتية، وغني عن البيان أن إعادة إعمار غزة سوف تتحمله الدول العربية المنتجة للنفط بشكل أو بآخر، وهذه تكاليف لم تؤخذ في الحسبان.
يسجل الاقتصاد الفلسطيني في شكل عام انخفاضاً في الناتج المحلي الإجمالي منذ بداية الحرب، وقدر الانخفاض بعد مرور شهرين من نشوب المعارك بنسبة 8.4 في المئة من الناتج المحلي، أو 1.7 مليار دولار بموجب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
وقدرت التقارير ارتفاع نسبة الفقراء من السكان إلى 35.8 في المئة بعدما كانت 26.7 في المئة قبل بداية الحرب، ويرجح ارتفاعها الى نسب أكبر. الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية الذين يقدر عددهم بنحو 5.5 ملايين نسمة، يعتمدون على انفاق السلطة الفلسطينية التي تقدر موازنتها بخمسة مليارات دولار، تحوّل من أموال الضرائب والجمارك. كما أن هناك من يعتمد على تمويلات الأقارب العاملين في الخارج. هذه الأوضاع لا بد أن ترتبك في ظل الحرب الدائرة.
لا فائدة من الحروب وهي خسارة للمنتصرين والمنهزمين، وعندما تتوقف لن تكون إعادة الحياة يسيرة أو وردية
الحروب لا فائدة منها وهي خسارة للمنتصرين والمنهزمين، وعندما تتوقف لن تكون إعادة الحياة يسيرة أو وردية. ستكون إعادة البناء الاقتصادي مكلفة في غزة وفلسطين عموماً، وليس هناك من مؤشرات إلى أن الدول العربية المتمكنة اقتصادياً، بلدان الخليج تحديداً، ستتمكن من توفير ما يلزم لإعادة البناء. هناك ضرورة لوضع ضوابط سياسية تؤكد أهمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي تتمتع بإدارة مستقلة ومؤهلة، بموجب قرارات الأمم المتحدة. كذلك لا بد من الزام اسرائيل احترام حقوق الفلسطينيين وعدم شن حروب موسمية عليهم لأسباب متنوعة. وربما يكون من الأجدى أن تتولى صناديق التنمية العربية مع البنك الدولي وضع استراتيجيا لإعادة البناء الاقتصادي وإدارة التنفيذ وتوفير التمويلات اللازمة من دون أن تشارك الدول العربية في التمويل المباشر. هذه طروحات لما بعد توقف الحرب التي يؤمل أن تنتهي في وقت قريب. ويفترض أن تتحمل اسرائيل جزءا من التكلفة بعد الدمار الذي حدث انسانياً واقتصادياً وعمرانياً بفعل رد الفعل غير المتوازن.