تعرض نتفليكس فيلم (Maestro) "مايسترو"، للممثل برادلي كوبر الذي يُجسّد السيرة الذاتية للملحن وقائد الأوركسترا الأميركي اليهودي من أصل أوكراني، ليونارد بيرنشتاين 1918- 1990. الفيلم أيضا من إخراج الممثل برادلي كوبر. اعتدنا في السينما الأميركية على نزوات ممثليها في القفز من مقعد التمثيل إلى مقعد الإخراج، وهي قفزة هائلة، على الرغم من أن الانتقال في الواقع، من أمام الكاميرا إلى خلفها، يستغرق دقيقة، أو دقيقتين، إلا أنه يستغرق بالمعني الفني، زمنا طويلا، سنة ضوئية، أو سنتين ضوئيتين على أقل تقدير، لكن ميل غيبسون وتوم هانكس وشون بن وكلينت إيستوود وآل باتشينو، اعتبروها قفزة هينة، والنتيجة أفلام عادية عند كثير منهم، وها هو الممثل برادلي كوبر، ينجز تجربة إخراجية ثانية، تُضاف إلى أرشيف الأفلام المتواضعة.
وكي لا نضطهد مهنة التمثيل التي لا تقل تعقيدا وحساسية عن مهنة الإخراج، فهناك أيضا مخرجون كبار، يقفزون من خلف الكاميرا إلى أمامها، برعونة، لأداء مشاهد تمثيلية، مثل مارتن سكورسيزي وسيدني بولاك وكوينتن تارانتينو ورومان بولانسكي، معتقدين أن ثبات أقدامهم في الإخراج السينمائي، يجعل العبور سهلا للحالة المثالية في تاريخ التمثيل والإخراج السينمائي معا، وهي حالة شارلي شابلن.
نصطدم في فيلم "مايسترو" منذ المَشَاهِد الأولى، بتركيب أنف اصطناعي للبطل برادلي كوبر، لمحاكاة أنف برنارد بيرنشتاين الحقيقي. سذاجة الحقيقة الحرْفية، وهي ليست بالضرورة حقيقة فنية، ففي هوليوود، تتعرض للسخرية في أفلام السيرة الذاتية، كما تعرّض أنف نيكول كيدمان بطلة فيلم "الساعات" 2002، للسخرية، بزيادة طوله اصطناعيا، ليحاكي أنف فرجينيا وولف الحقيقي. أثار أيضا الأنف الاصطناعي لبرادلي كوبر، جدلا من نوع آخر، فقد قال البعض إن كوبر ليس يهوديا، وهو يُجسّد في الفيلم شخصية يهودية، فتركيبه لأنف اصطناعي، هو معاداة للسامية، بينما دافع أبناء بيرنشتاين ورابطة مكافحة التشهير عن الممثل برادلي كوبر كما جاء في مراجعة مجلة "تايم" للفيلم.
الفرق بين أداء حمل عصا الأوركسترا في فيلم "تار"، وبينه في فيلم "مايسترو"، كالفرق بين قمة الجبل وسفحه
يبدأ فيلم "مايسترو" بلحظة مجد فائقة، ليونارد بيرنشتاين يُستدْعَى بشكل عاجل، ليقود أوركسترا "نيويورك الفيلهارمونية"، وهو لم يتجاوز 25 عاما، بسبب المرض المفاجئ لقائد الأوركسترا برونو والتر، ودون تدريب مع فريق الأوركسترا، يحقق برنارد نجاحا كاسحا. ليونارد يحب الحياة العامة، والحفلات الراقصة، ولا يغلق باب الحمّام عليه، ربما خوفا من الوحدة. ترتسم على وجه برنارد طوال الفيلم شبه ابتسامة لا نعرف سببها. شارك برادلي كوبر في كتابة السيناريو مع غوش سينغر. الفيلم ينقسم إلى زمنين، زمن الأربعينيات، بالأبيض والأسود، وزمن الستينات والسبعينات بالألوان.
الممثلة الرائعة كاري موليغان في دور فيليسا زوجة برنارد، أفضل ما في الفيلم، وكأنها تعمل لحسابها الفني الخاص، طالما أن بطل الفيلم الرئيسي لا يستطيع منافسة كاري موليغان في الأداء. تتحمل فيليسا خيانات زوجها بصمت، وتختار له ملابسه بحسب ذوقها الكلاسيكي، وعندما تواجه بيرنشتاين بخيانته، ينفجر أداؤاها القوي، وتمسح أداء برنارد مسحا، وهي تقول: عندنا في أميركا الجنوبية، وهو موطنها الأصلي، مثل يقول، لا تقف أبدا تحت طائر يريد إخراج فضلاته. وفيليسا تعيش تحت هذا الطائر اللعين منذ زواجها منه.
يلحّ مخرج الفيلم على تصوير إفراط برنارد في العلاقات الاجتماعية فيما يشبه الهذيان، وبأداء صوت مزكوم، لا ينتهي احتقانه، يذكرنا بمشهد فيبي في مسلسل "فريندز" الكوميدي، عندما اكتشفتْ صدفة أن صوتها، وهي مصابة بالبرد، اقترب من صوت مغنيات البلوز، فكانت سعيدة بشرخ صوتها الجديد. هل أراد برادلي كوبر إشباعنا إلى حد التخمة، برومانسية عفا عليها الزمن، عبر صوت بيرنشتاين المحتقن بالنخامة، وشراهة التدخين التي تتعدى المتعة، سيما أن برادلي كوبر يبدو غير مدخن في الحقيقة، فتبقى طريقة تدخين السجائر في كل مشاهد الفيلم تقريبا، عبئا ثقيلا علينا.
يستدعي دور برنارد بيرنشتاين، قائد الأوركسترا، دور كيت بلانشيت قائدة الأوركسترا في فيلم "تار"، 2022، مقارنة الأداء التمثيلي ليس في صالح برادلي كوبر الذي أخذ فرصة حمل عصا الموسيقار، كما أخذتها كيت بلانشيت العظيمة، ونافستْ على جائزة الأوسكار. الفرق بين أداء حمل عصا الأوركسترا في فيلم "تار"، وبين حمل عصا الأوركسترا في فيلم "مايسترو"، كالفرق بين قمة الجبل وسفحه.