من المغرب ودمشق
بدأت علاقة أندريه ميكيل بالعالم العربي حين فاز وهو في الثانوية العامة برحلة إلى المغرب في مسابقة بالجغرافية عام 1946 ليعود مهتما بدراسة القرآن الكريم ثم سفره في عامي 1953 و1954 إلى دمشق بمنحة من المعهد الفرنسي للدراسات العربية، ليكلل بدايات اهتمامه بأطروحته الأكاديمية الرائدة عن "الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن الحادي عشر"، والتي تحوّلت إلى موسوعة في مجلدات عدة (1967) أراد من خلالها كما قال "دراسة ما تنفرد به الثقافة العربية الإسلامية في القرون الوسطى من أشكال أساسية".
والجغرافيا التي درسها ميكيل لم تكن متخصصة في مجال محدّد بعينه بل شملت مختلف الميادين، فلا تنفصل الأرض أو الإنسان عن "الكائنات الأخرى أو عن خلائق الكون، ولا تختلف معالجتها المعدن عن معالجتها النبات، أو معالجتها المدينة عن معالجتها الكائن الحي، أو معالجتها الإنسان عن معالجتها الكون". ولأنه والحال هذه جاء حديثه عن الجغرافية البشرية كتعبير عن الجغرافية الكلّية والأدبية معا "فالجغرافية البشرية تعني أيضا أن الإنسان موجود في كل مكان في الجغرافية الكلّية وفي مركزها على الأصح، لأنّه في مركز هذه الخليقة التي تدعى الجغرافية، إنّها صورة عنها، أقصد مركزها الأخلاقي التي تخضع له جميع المخلوقات وتُسَخَّر، حسب المعتقد الإسلامي، ومركزها العقلاني والمنطقي، لأن الإنسان وحده، في الإسلام، مثلما كان في نظراليونان، صورة عن الكون، كون صغير. وبالمعنى الحقيقي، العالم أجمع بشري لأنه يتصرّف حسب آليات ونواميس تجتمع مصغرة في الإنسان، وكما تقول النصوص: تغتاظ البحار وتهرم الأرض مثل البشر". وتتضمن الجغرافية العربية موضوعا من أقدم المواضيع وأهمها "وهو العلاقة بين طبائع البشر وسلوكهم من جهة وبين موقعهم على الأرض وتحت الكواكب من جهة أخرى".
الإسلام وحضارته
من أهم مؤلفات أندريه ميكيل كتاب "الإسلام وحضارته" والذي يكاد يكون المدخل المهم باللغة الفرنسية لفهم تاريخ الإسلام وثقافة مجتمعاته المتعددة التي شملت إلى جانب الجزيرة العربية الكثير من الثقافات كالفارسية والإسبانية والتركية والروسية والصينية وتمددت مع المماليك والمغول وغيرهم.
فيتحدث ميكيل في هذا الكتاب عن تكوين ثقافة الصحراء العربية وعلاقة ذلك بالمكون الاقتصادي والاجتماعي حيث الجَمَل والكلأ والغزو شارحا حياة البدوي في الصحراء مع علاقته بالنظام القبلي، وكيفية نشوء ما أسماه بالملحمة المحمدية وعلاقتها باليهودية والمسيحية، موضحا أسس العقيدة الإسلامية وعوامل تكوينها وعلاقة الإسلام بالعروبة والثقافات الأخرى. دون أن يغفل التحولات التي لازمت عصور الخلفاء وعدم استقرار الدولة مع وجود تداخل بين المجالات الدينية والسياسية.
وفي توسع انتشار الإسلام يتناول أفكار فلاسفة المسلمين ودور العلماء في مختلف الفنون وبالذات الطب والعمارة والموسيقى. ومن اللافت في الكتاب ما قاله ميكيل من أنّ المؤرخين "العرب في إجمالهم ميالون إلى الشيعة" فهم "معارضون للخلفاء الأمويين الذين يتهمهم الشيعة باغتصاب حقوق خلافة علي"، ولهذا يرى أن "قرنا بأكمله من القرن الأول لتاريخ الإسلام وقرن شبابه المنتصر غير معروف لدينا سوى من خلال تراث عادة ما يكون متحفظا أو معاديا".
ويتساءل ميكيل هل هناك إسلام واحد أم أنواع من الإسلام؟ وهو سؤال عادة ما يطرح إلا أن المؤلف يرى أن كلمة "الإسلام" تشمل "في الحقيقة عدة مدارس وبلدان وفترات شديدة التفاوت بعضها عن بعض، إلاّ أنها من جهة أخرى تشملها منذ القدم، وتلك ظاهرة تعبر عن وحدة عميقة لابد من محاولة استكشافها رغم الخلافات القائمة". ومن هنا يتحدث المستشرق البارز عن إسلام الصحراء وإسلام القرى وإسلام المدن، والإسلام المتعدّد أيضا في الأزمنة "فهناك الإسلام الأساسي والإسلام الكلاسيكي والإسلام الإصلاحي في القرن التاسع عشر" إلى جانب الإسلام المتعدد في مذاهبه. مع ملاحظته أن الإسلام لم ينعزل داخل أي مذهب من مذاهبه في أي فترة من فتراته.
محاورة الآخر
في كتابه "أندريه ميكيل" الذي صدر عن معهد العالم العربي في باريس وجائزة الملك فيصل في الرياض يلاحظ كاظم جهاد حسن أن ميكيل في غير موضع نراه "ينتقد توجهات الاستراق التقليدي، ويدافع عن نمط من الاستشراق يراه بعيدا كلّ البعد عن الموروث الاستعماري للثقافة الغربية" فيذكر لوي ماسينيون وريجيس بلاشير وجاك بيرك وفنسان مونتوي "ملتقيا مع إدوارد سعيد الذي ذكَر من ناحيته في مطلع كتابه الشهير "في الاستشراق" كلاّ من ماسينيون ورودنسون وبيرك، وينوّه بما يبذله هؤلاء المستشرقون وأمثالهم من جهود فذّة في محاورة الآخر الذي يشكّل موضوع أبحاثهم".
ومن المستلزمات الموضوعية التي يدعو ميكيل الاستشراق أو الاستعراب ما بعد الاستعماري إلى الاضطلاع بها، يذكر كاظم جهاد أن "من الخطأ، في اعتقاده، العمل على فهم الشخصيات الأساسية في تاريخ الإسلام من دون البحث عن تصوّر المسلمين لها في تاريخهم أو تراثهم نفسه، فبهذا التصوّر تكتمل الصورة الموضوعية المراد تقديمها عن الشخصيات التاريخية"، إلى جانب إشاراته إلى أن من الضرورة عدم تطبيق قواعد النحو والشعر الأوروبية على قواعد وتصورات النحو والشعر العربية.