الحركة الوطنية الفلسطينية بعد 59 عاماhttps://www.majalla.com/node/307046/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-59-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7
مرّت الحركة الوطنية الفلسطينية، في عمرها المديد (59 عاما)، بكثير من المنعطفات التاريخية، بحسب التعبير المتداول في الخطابات الفصائلية، وهي اليوم في الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة تشهد فصلا ربما هو أحد أهم فصولها أو منعطفاتها العاصفة، الذي سينجم عنه تأثيرات قوية، على خطاباتها وكياناتها وأشكال عملها وعلاقاتها وأنماط كفاحها ضد إسرائيل، كما على الشعب الفلسطيني، ورؤيته لذاته، ومكانته عربيا ودوليا.
يمكن ملاحظة كثير من المداخل للتأريخ لتلك الحركة تبعا لطبيعة كل حقبة تاريخية، فمثلا يمكن عرض ذلك بحسب التموضع الجغرافي لتلك الحركة التي نشأت أساسا في الخارج، في البلدان العربية، أي بلدان "الطوق" (الأردن ولبنان وسوريا)، ثم انتقلت إلى الداخل في الضفة والقطاع بعد عام 1993، علما أنها في الخارج تركزت بداية في الأردن (حتى عام 1970) ثم أخرجت إلى لبنان إلى حين إخراجها منه، بنتيجة الغزو الإسرائيلي (1982)، حيث انتقل مركز القيادة الفلسطينية إلى تونس إلى حين عقد اتفاق أوسلو وانتقالها إلى الداخل.
وثمة التأريخ لذلك من جهة تعيينها للهدف السياسي، فقد نشأت بداية على فكرة تحرير فلسطين، لأنها تأسست، أصلا، قبل النكبة الثانية باحتلال إسرائيل للضفة وغزة، في حرب 1967، ثم انتقلت إلى تبني فكرة إقامة دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلت في تلك الحرب، وفقا لما بات يعرف بالبرنامج المرحلي، الذي تبنته منظمة التحرير أواسط السبعينات، وجرى بناء عليه الاعتراف بتلك المنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة العربي وفي المجتمع الدولي، ثم تطور ذلك، أو بالأصح تم النكوص عنه، بإقامة حكم ذاتي، أو سلطة فلسطينية، في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة (من دون القدس، بموجب اتفاق أوسلو (1993).
يمكن التأريخ لتلك الحركة بتحولها من حركة تحرر وطني، شكلها الكفاح المسلح في الخارج، إلى سلطة على شعبها تحت الاحتلال، في الضفة وغزة
أيضا، يمكن التأريخ للحركة الوطنية الفلسطينية من زاوية أشكال الكفاح التي اعتمدتها، فقد بنت شرعيتها على إطلاقها الكفاح المسلح، كوسيلة وحيدة للتحرير، ثم كأحد أشكال الكفاح، ثم انتقلت إلى المزاوجة بين الكفاحين المسلح والشعبي، ثم أتت الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993)، التي انتهت إلى تبني شكل الصراع السياسي، أو التفاوضي لتحقيق هدف إقامة الدولة الفلسطينية إلى جانب إسرائيل، ويأتي ضمن ذلك أسلوب الحرب الصاروخية، الذي تبنته حركة "حماس" في قطاع غزة، بعد انقسام الكيان الفلسطيني إلى سلطتين في الضفة وغزة (2007). لكن المشكلة الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية كانت (ولا زالت) تتمثّل في التناقض الكبير بين الشعار الذي تطرحه والوسائل التي تتبناها لتحقيقه، من جهة، وبين إمكانياتها الذاتية وشروط العمل المسموح بها عربيا ودوليا، من الجهة الثانية، بخاصة وأن عملية الصراع ضد إسرائيل هي على مستوى عال من الشمولية، وهي أكبر بكثير من إمكانيات الفلسطينيين وحركاتهم الوطنية، على الأقل في المدى المنظور، ووفقا للمعطيات السائدة.
في جانب آخر، يمكن التأريخ لتلك الحركة بتحولها من حركة تحرر وطني، شكلها الكفاح المسلح في الخارج، إلى سلطة على شعبها تحت الاحتلال، في الضفة وغزة، وهي حقبة امتدت من عام 1994 إلى الآن، أي ثلاثة عقود من الزمن، مقابل حقبة التحرر الوطني، التي امتدت من عام 1965-1994، مع الأخذ في الاعتبار "المرحلة التونسية" (1982-1993) التي تخللتها الانتفاضة الشعبية الأولى. في هذا التأريخ يفترض الأخذ في الاعتبار أن الحقبة الأولى تبوأت فيها "فتح" مكانة القيادة في الحركة الوطنية الفلسطينية بلا منازع، بزعامة ياسر عرفات، وفي ظل كيان سياسي هو منظمة التحرير، في حين تميزت المرحلة الثانية بتراجع مكانة تلك، وصعود "حماس"، كمنافس ومنازع لها على مكانة القيادة والسلطة، في ظل رئاسة محمود عباس للمنظمة والسلطة و"فتح"، وهي المرحلة التي تم تهميش منظمة التحرير فيها لصالح كيان السلطة، التي باتت سلطتين، واحدة لـ"فتح" في الضفة، والثانية لـ"حماس" في غزة.
توخّت القيادات الفلسطينية تجنّب المصير البائس للحركة التي سبقتها (الهيئة العربية العليا)، بما في ذلك مصير "حكومة عموم فلسطين"، المنبثقة عنها، والتي غيّبها التجاهل والنسيان
على ذلك، ففي مسألة التحقيب التاريخي واضح أن الحركة الوطنية الفلسطينية عانت من نواقص ومشكلات وثغرات كثيرة، يمكن إيجاز أهمها في الآتي:
أولا، منذ البداية نشأت تلك الحركة على أساس الاعتماد على حاضنة عربية، وعلى فرضية مركزية القضية الفلسطينية في العالم العربي، ووفق فكرة "التوريط الواعي"، باعتبار أن العمل الفدائي سيشكل نواة، أو طليعة، عملية التحرير، التي لا بد ستلتحق بها الجيوش العريبة، لكن كل ذلك تبين عن تسرّع وخطأ وتبسيط كبير، إذ سرعان ما هزمت الأنظمة المعنية أمام إسرائيل (1967)، وبعدها وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في ورطة أو في وضع إشكالي مع كثير من الأنظمة العربية، الأمر الذي أخرجها من الأردن، ثم من لبنان، ثم من سوريا. وللإنصاف، فقد أثبتت التجربة التاريخية صعوبة، وحتى استحالة، قيام حركة وطنية فلسطينية لا تحظى برضا النظام السياسي العربي، حتى إن الحركة الفلسطينية المعاصرة تدين بوجودها، من أوجه متعددة، إلى هذا النظام، وهي في أحوال عديدة استمرت بفضل تناقضاته وليس رغما عنه، كما قد يعتقد البعض.
ثانيا، منذ البداية، أيضا، سكت خطاب تلك الحركة (المتعلق بالتحرير)، لأسباب ذاتية وإقليمية، عن وجود أجزاء من أراضي فلسطين (الضفة والقطاع)، وأجزاء من الشعب الفلسطيني، خارج نطاق الهيمنة الإسرائيلية (قبل احتلال 1967)، في تواطؤ غير مباشر، مع النظام الرسمي العربي السائد، آنذاك، مقابل اعتراف ذلك النظام بشرعية العمل الفلسطيني. وقد توخّت القيادات الفلسطينية حينها، من ذلك، تجنّب المصير البائس للحركة التي سبقتها (الهيئة العربية العليا)، بما في ذلك مصير "حكومة عموم فلسطين"، المنبثقة عنها، والتي غيّبها التجاهل والنسيان. ومن ناحية أخرى، فإن خطاب "التحرير" ذاته، وبعده خطاب الدولة في الضفة والقطاع، لم يستوعب فلسطينيي 48 في نطاق الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ تعامل معهم بدلالة مواطنيتهم في إسرائيل، بدل التعامل معهم بدلالة انتمائهم للشعب الفلسطيني، ما أخلّ بمفهوم واحدية الشعب، وهذا كان أحد معالم قصور تلك الحركة، منذ نشوئها وإلى الآن.
في إسرائيل من يرى أن اليمين القومي والديني المتطرف (المتمثل بحكومة نتنياهو) لا يستهدف الفلسطينيين فقط، بالاحتلال والاستيطان والعنصرية، وإنما أيضا تغليب الطابع الديني اليهودي في إسرائيل على طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية
ثالثا، رغم كل التضحيات والبطولات والمعاناة التي جسدها الشعب الفلسطيني في إطار حركته الوطنية، إلا أن تلك الحركة لم تثبت على رؤية وطنية واضحة، تطابق بين الشعب والأرض والقضية، كما أنها لم تثبت على شكل كفاحي معين طويل الأمد، ككفاح مسلح او انتفاضات شعبية، أو كفاح سياسي، واللافت أن معظم الإنجازات الوطنية التي حققتها تلك الحركة حدثت في أواسط السبعينات (استنهاض الشعب الفلسطيني من واقع النكبة، وتعزيز هويته الوطنية، وبناء كيانه الوطني المتمثل بمنظمة التحرير، وفرض الاعتراف الدولي والعربي بالمنظمة، ووضع قضية فلسطين كقضية سياسية في جدول الأعمال العربي والدولي)، لكنها بعد ذلك كفت عن إضافة أي شيء جديد، بالعكس فقد جرى النكوص عن كثير من تلك الإنجازات، كما شهدنا، مثلا، بتهميش منظمة التحرير، على يد قيادتها ذاتها، وتفكيك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، باختزاله عمليا بفلسطينيي الضفة وغزة، وتحويل الحركة الوطنية من حركة تحرر وطني إلى سلطة على شعبها، تحت الاحتلال. الملاحظة هنا، أنه بدلا من النكوص عن هدف التحرير، كان يمكن لتلك الحركة البناء عليه، وإضفاء معان ومضامين جديدة له، في معادلات سياسية أخرى، كالنضال من أجل دولة واحدة ديمقراطية في فلسطين، أو بتعزيز البعد الحقوقي المتعلق بالحرية والمساواة والعدالة والمواطنة، بين النهر والبحر، لكل الناس، فلسطينيين وإسرائيليين، ما يتماشى مع حقوق المواطنة في الدول الغربية ذاتها.
رابعا، ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية مرتهنة في اعتمادها على الخارج، في مرحلة المنظمة وفي مرحلة السلطة، وثمة فارق هائل بينها وبين إسرائيل في موازين القوى، والموارد، والمعطيات المواتية خارجيا، كما ظلت تعاني من افتقادها لإقليم مستقل، وتاليا من تجزئة الشعب الفلسطيني، وخضوعه لأنظمة سياسية متعددة، ومختلفة، وهو الواقع الذي فرض عليها قيودا، وأثقل على خياراتها السياسية والكفاحية، وحد من قدرتها على إدارة أوضاعها، يأتي ضمن ذلك عدم قدرتها على شمول فلسطينيي 48 في إطارها، وتعاطيها (كما قدمنا)، وهو ما انسحب فيما بعد على اللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، بحصر تمثيل السلطة لفلسطينيي الضفة وغزة.
خامسا، طوال تاريخها افتقدت الحركة الوطنية الفلسطينية للطابع المؤسسي والديمقراطي، في كياناتها (المنظمة والسلطة والفصائل)، وفي علاقاتها البينية، وظلت تخضع لهيمنة قيادة "فتح" (في مرحلة الخارج)، ثم باتت تعيش واقع ازدواجية هيمنة سياسية بعد صعود حركة "حماس"، وذلك يشمل الهيمنة في الخطابات والخيارات السياسية والكفاحية. وكانت انعكاسات ذلك قد تمثلت في الفجوة بين الطبقة السياسية ومجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، رغم التعاطف الحاصل مع هذا الفصيل أو ذاك، إلا أن تلك العلاقة لم تكن عضوية، وليس لها علاقة بالمشاركة السياسية، رغم أن الشعب الفلسطيني هو الذي دفع وما زال يدفع باهظا ثمن الخيارات السياسية والكفاحية للفصائل، التي لم تقم ولا مرة بمراجعة طريقها، أو أشكال عملها، سيما بعد التحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة في الضفة وغزة.
سادسا، لا يتمثل الافتراق، أو الاختلاف الفلسطيني، على الهدف السياسي، الذي نجم عنه الافتقاد إلى المطابقة بين الشعب والأرض والقضية، فهذا يشمل، أيضا، ضعف إدراك الفلسطينيين، أو الطبقة السياسية السائدة، لضرورة إيجاد معادلة تتعلق بالمجتمع الإسرائيلي، بصوغ مشتركات أو تقاطعات، بين الحركة الوطنية الفلسطينية مع اليهود الإسرائيليين المناهضين للصهيونية، وللفاشية الإسرائيلية، ولإسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، وقد بينت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة إمكانية ذلك، كما شهدنا صعود أصوات يهودية، داخل إسرائيل وخارجها، ضد تلك الحرب، وحتى قبل ذلك بات ثمة في إسرائيل من يرى أن اليمين القومي والديني المتطرف (المتمثل بحكومة نتنياهو) لا يستهدف الفلسطينيين فقط، بالاحتلال والاستيطان والعنصرية، وإنما أيضا تغليب الطابع الديني اليهودي في إسرائيل على طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود).
إسرائيل وضع دولي، وليست مجرد دولة استعمارية إزاء الفلسطينيين، وهذا ما أثبتته وقائع حرب إسرائيل في غزة، بعد مرور 59 عاما على ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية
سابعا، الافتراق الفلسطيني في الخيارات السياسية، يشمل الخيارات الكفاحية، أيضا، ناهيك عن عدم وجود استراتيجية كفاحية واضحة وممكنة لحركة وطنية عمرها 59 سنة. وهذا الافتراق يتمثل في سيادة عدة أشكال كفاحية للشعب الفلسطيني بين النهر والبحر، بمعنى أن الحديث عن شكل معين (كفاح مسلح أو كفاح سياسي أو انتفاضة أو حرب صاروخية) لا يطابق الواقع، إذ لا يوجد شكل واحد معتمد، ما يضعف الكفاح الفلسطيني، ويسهم في تعزيز حال الاختلاف بين الفلسطينيين، ولنلاحظ أن الهبة الشعبية للدفاع عن حي الشيخ جراح (2021) كانت شملت كل الفلسطينيين من النهر إلى البحر، تماما كما في الانتفاضة الشعبية الأولى، في حين أن حرب إسرائيل في غزة مثلا، رغم ضراوتها، ورغم الإجرام الإسرائيلي المتمثل بها، لم تؤد إلى خلق ذات التفاعلات التي أحدثتها تلك الهبة في حينه، وهذه ملاحظة على غاية الأهمية، ما يفيد بأن أي شكل كفاحي لا يتمكن كل الفلسطينيين من المشاركة فيه وتحمل تبعاته، يحتاج إلى وقفة تفكير، بمعزل عن التمنيات والرغبات والعواطف.
باختصار، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية ليست الأولى من نوعها التي لا تنجح في تحقيق أهدافها، إذ حصل ذلك في كثير من التجارب التاريخية التي عرفتها البشرية، وضمنها التجربة الوطنية الفلسطينية ذاتها في المراحل السابقة.
ومع أن كثيرا من التعقيدات والصعوبات ناجم عن عوامل موضوعية خارجية، إلا أن ذلك لا يمنع من رؤية مكامن قصور الاستراتيجيات أو الخيارات التي اتبعتها "فتح" أو "حماس"، في الصراع ضد إسرائيل، التي تمتلك الإمكانيات، والمعطيات الخارجية الإقليمية والدولية، التي تساعدها على امتصاص الأشكال الكفاحية الفلسطينية؛ وفي الواقع فإن إسرائيل وضع دولي، وليست مجرد دولة استعمارية إزاء الفلسطينيين، وهذا ما أثبتته وقائع حرب إسرائيل في غزة، بعد مرور 59 عاما على ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية.