ها هي الحروب تعود. أثارت أعمال العنف المروعة التي شهدتها كل من غزة وأذربيجان وأوكرانيا خلال هذا العام (2023) قلقا عميقا من احتمال تزايد الصراع في السنوات المقبلة. والحق أن هذه التطورات، كما قال وزير خارجية إستونيا مارغوس تساكنا لصحيفة "الغارديان" في ديسمبر/كانون الأول، ولا سيما تصرفات روسيا في أوكرانيا، تهدد "بالعودة إلى عصر الإمبراطوريات، حيث القوة تصنع الحق، وعندها سوف يعاني الجميع".
واقع الحال أن الحروب لم تختف البتة؛ ففي العقد الماضي فحسب، وقعت حروب أهلية مروعة في كل من سوريا واليمن وإثيوبيا وليبيا، على سبيل المثال لا الحصر، وقد شهدت جميعها تدميرا شاملا وغير شخصي على نطاق مماثل لصراعات اليوم.
لكن الذي تغير على ما يبدو هو الأطراف التي تخوض القتال والغاية من اقتتالها. كانت الحروب الأهلية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين صراعات داخلية. ورغم أنها استدرجت جهات أجنبية فاعلة، واجه بعضها بعضا بشكل غير مباشر، إلا أن الصراع كان في معظم الأوقات في إطار حرب أهلية ويجري بهدف تحديد من سيحكم البلاد.
على النقيض من ذلك، كانت صراعات عام 2023 عبارة عن حروب بين الدول؛ فروسيا تقاتل أوكرانيا، وأذربيجان تقاتل أرمينيا. وإسرائيل- رغم أنها لا تعترف بشرعية "حماس"- تتعامل مع غزة وكأنها دولة ذات سيادة. وعلى عكس الحروب الأهلية، لا تدور الصراعات حول من يحكم، بل تدور حول الاستحواذ على عنصر إقليمي قوي، فها هي روسيا تريد ضم أجزاء من شرق أوكرانيا، وقد نجحت أذربيجان في استعادة ناغورنو كاراباخ وضواحيها، في حين تتحدث إسرائيل عن إنشاء منطقة عازلة داخل غزة لحماية مدنييها من هجمات مستقبلية. وفي أماكن أخرى، انتشرت شائعات مفادها أن إثيوبيا ربما تفكر في شن هجوم جديد على إريتريا للوصول إلى ميناء عصب. وفي بيئة استعراض العضلات الجديدة التي يحذر منها "تساكنا" في مقابلته الآنفة، قد تعود حروب احتلال الأراضي لتغدو شائعة من جديد.
حروب قديمة وحروب جديدة
عندما انتهت الحرب الباردة، لاحظ الباحثون ومراقبو الصراع تحولا في أنماط الحرب، فقد كانت حقبة الحرب الباردة تشهد حروبا بينية وأخرى داخلية، فنشبت حروب بين الدول واشتعلت أخرى داخل الدول. وفي معظم الأحيان كان كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يدعم أحد الجانبين وتدعم القوة الأخرى الطرف الآخر؛ فعلى سبيل المثال، كانت واشنطن تدعم إسرائيل وموسكو تدعم الدول العربية في كثير من الحروب العربية الإسرائيلية، بينما أخذ كل طرف جانبا مختلفا في حروب فيتنام أو أفغانستان أو موزمبيق أو أنغولا. ولكن بعد عام 1990، تحول الصراع من الحروب بين الدول وأصبحت الحروب الأهلية هي المهيمنة. كان العنف في الصومال ورواندا ويوغوسلافيا السابقة مختلفا تماما عما حدث في السابق.