بعد الأهوال التي تعرض لها اللاجئون الفارون برا وبحرا من بلدانهم المتصدعة دولا ومجتمعات، والذين تقصت "المجلة" شهادات موسعة عنهم وعن شبكات مهربيهم، نعرضُ هنا يوميات حياة بعض هؤلاء اللاجئين في "مخيماتهم" بهولندا وألمانيا.
لا بد من الإشارة أولا إلى أن توسع موجات اللجوء إلى أوروبا وتكاثرها، أديا إلى عجز "المخيمات" القائمة في هولندا عن استيعابهم وإيوائهم الصيف الماضي؛ فطقس الصحو الصيفي في البحر المتوسط وأوروبا غالبا ما يجعل تدفق موجات اللاجئين إلى القارة العجوز أكثر غزارة واتساعا. وهذا ما حمل إدارة استيعابهم الهولندية على إيواء الفائض منهم في بيوت- مراكب عائمة على شواطئ روتردام، وفي منتجعات ريفية خاصة بالاستجمام في العطلات الصيفية.
بين هولندا وألمانيا
في إطار إعدادها هذا التحقيق الاستقصائي الموسع عن اللجوء واللاجئين وشبكات تهريبهم بحرا وبرا إلى أوروبا، زارت "المجلة" بعضا من تلك البيوت- المراكب العائمة في روتردام، وواحدا من المنتجعات التي استأجرتها إدارة إيواء اللاجئين الهولندية، وحولتها إلى "مخيّم" لأعدادهم الفائضة.
يقع المنتجع- المخيم على مسافة نحو 10 كيلومترات من مدينة لاهاي (بنهاج في الهولندية). أي في ريفها، على ما يقول اللاجئون السوريون في المخيم، نسجا على منوال تسمياتهم ضواحي المدن في بلادهم. واستأجرت إدارة شؤون اللجوء نصف عدد شاليهات المنتجع وأنزلت فيها جموعا من اللاجئين، معظمهم من سوريا والباقون من أفغانستان والعراق وبلدان جنوب الصحراء الأفريقية. وجميعهم وصلوا إلى هولندا في مجموعات وعلى دفعات، خلال شهري يوليو/تموز، وأغسطس/آب الماضيين. وهم ينتظرون أن تدرس الإدارة الهولندية "ملفات" لجوئهم واجتيازهم بطرق "غير قانونية" حدود دول أوروبية كثيرة، فتجري معهم مقابلات وتحقيقات مطولة قبل أن تمنحهم إقامات قانونية على أراضيها.
من أين لريف البلاد المنخفضة أو الواطئة، وقلة مواليدها وحاجتها إلى تجديد شبابها الديموغرافي، أن تظهر فيها علامات الاكتظاظ والكثرة والفوضى؟
تردّدت "المجلة" عدة مرات في نهارات ثلاثة مستطلعة حياة اللاجئين اليومية في البيوت- المراكب العائمة وفي "المخيم" الريفي قرب لاهاي. فسجلت شهادات كثيرين منهم عن مافيات تهريبهم وشبكاتها متعددة الجنسية والتي لم تتوقف عن ابتزازهم طوال رحلة عبورهم حدود البلدان الكثيرة التي اجتازوها وصولا إلى هولندا.
وزارت "المجلة" مخيمين للاجئين سوريين وقلة من العراقيين، قرب مدينة دورين الصغيرة وبلدة كروزاو القريبتين من مدينة كولن وسط ألمانيا الغربي، فجمعت من بعض نزلائهما شهادات وقصصا عن مسالك وصولهم إلى بلاد الراين.
سكون الحياة المستعارة
بعد دخول الزائر إلى ما يسميه اللاجئون "مخيما"، وأثناء تجواله بين ما كان شاليهات للاستجمام الصيفي، سائرا في ممرات لولبية مشجرة وتكثر على جنباتها زهور وأعشاب دائمة الخضرة- لا يتولد لديه انطباع أنه في مخيم لاجئين يؤوي عددا كبيرا منهم: 1500 شخص، حسب شهادة لاجئ سوري استطعنا التواصل معه بواسطة صديق سوري هو الآخر ويعمل في إسطنبول، وزودنا برقم هاتفه الهولندي، وقال إنه وصل حديثا إلى هولندا.
ويظل الزائر يشعر أن عدد اللاجئين في هذا المنتجع- المخيم لا يتجاوز العشرات، كأنما الرقم الذي ذكره محدثنا السوري من بنات خياله أو مبالغاته. لكن إدارة المخيم أكدت لنا ذاك الرقم. وبالرغم من ذلك، يظل الإيهام بضآلة العدد قائما، حتى بعد دخول الزائر إلى بعض "الشاليهات" ومجالسته نزلاءها الذين تكرر ذكرهم أن كل واحد منها يؤوي بين خمسة وستة لاجئين. وهذا يعني أن عدد شاليهات المنتجع لا يقل عن 300 شاليه، يشعر الزائر أن أشكال إقامة نزلائها اللاجئين وعلاقاتهم ولغتهم تشي بأنهم ليسوا في ديارهم وبيوتهم، بل يعيشون هنا حياة شبه مستعارة، موقوفة ومؤقتة.
الأرجح أن ذلك الإيهام مصدره السكون والهدوء اللذان يخيمان على "المنتجع- المخيم". وقد يكونان ناجمين عن الفن الهندسي والمعماري الأوروبي، والهولندي الريفي تحديدا. ثم من أين لريف البلاد المنخفضة أو الواطئة، وقلة مواليدها وحاجتها إلى تجديد شبابها الديموغرافي- وهذا يوقعها في حيرة والتباس وقلق في خياراتها، حتى السياسية والأمنية منها- من أين لها أن تظهر فيها علامات الاكتظاظ والكثرةوالفوضى؟! فمثل هذه العلامات والمظاهر، ودعتها أوروبا بعد خوضها حربين عالميتين مدمرتين أفقدتاها عشرات الملايين من سكانها، وتفرغت للبناء والإعمار، وعبادة السلام والأمن والقانون والرخاء. فاستقدمت إليها مهاجرين عمالا لسد النقص الديموغرافي فيها وحاجتها إلى أيد عاملة رخيصة.
وعلى الرغم من فيض أعداد المهاجرين واللاجئين الفارين إليها، لا تزال في حاجة إلى استقبالهم وإدماجهم اجتماعيا وثقافيا، وربما مرغمة على ذلك. وقد ينجم ذاك الإيهام بقلة أعداد اللاجئين الذين يؤويهم المخيم الهولندي وسواه في ألمانيا، وبهدوء الحياة وسكونها فيه، عن قوة ناعمة خفية لا يشعر بها أحد. وهي قوة تهيمن على المخيمات ونزلائها الكثيرين. وقد يكون للشجر والأعشاب والزهور دور في إشاعة ذينك السكون والهدوء. والأرجح أيضا أن لإقدام اللاجئين على استسلامهم، الواعي أو غير الواعي، إلى تلك القوة الخفية الناعمة، ولبدئهم العيش هنا في المخيمات حياة مستعارة ومعلقة، نصيبا وفيرا في السكون والهدوء إياهما.
العيش بين زمنين
لكن الزائر سرعان ما يشعر، بعد وقت، أن السكون والهدوء والصمت والأصوات الخافتة لا تخلو من بعض كآبة. ولربما هناك شيء ما- قوة أو صخب، ألم ورعب- همد في أجسام اللاجئين وأرواحهم، وحل محله شعور بأمان مستعار بدوره، بعد لقاءاتهم الأولى بهيئات إدارات اللجوء الأوروبية. والأرجح أن السكون والهدوء يوحشان اللاجئين في حياتهم الجديدة المعلّقة بين زمنين:
زمن الرعب والشقاء الذي خرجوا منه خروج ناجين من "بطن حوت" أسطوري تركوه وراءهم. أي بلادهم، بلاد العنف والصخب والفوضى والخوف والقهر والجوع والموت، في الحقيقة والواقع. وهو أيضا زمن رحلات فرارهم المروعة برا وبحرا، والشبيهة برحلة عوليس الملحمية الأسطورية، لكن معكوسة أو مقلوبة؛ فعوليس كانت رحلته الخطرة والمريرة رحلة عودة إلى الموطن والبلاد والأهل وحضن الزوجة الدافئ. أما رحلة اللاجئين إلى أوروبا فرحلة فرار من ذلك كله إلى أمان آخر، مفترض وموعود.
زمن الإقامة والحياة الموعودتين في أوروبا. وهذا زمن تبديه الحياة في المخيم غامضا ومجهولا، وغير قابل للإدراك والفهم بعدُ، إلا على نحو شبحي أو ضبابي وبعيد.
وبين هذين الزمنين يعيش اللاجئون في مخيماتهم المؤقتة، فيوحشهم فيها ذلك الزمن الأوروبي الهندسي المنظم الذي يبدأون بتلمسه منتظرين ومستسلمين إلى خواء الوقت واللغة والأيام وإلى شعورهم المكتوم بالغربة والمنفى. وهم لا يقولون هذا. وقد لا يشعرون به ربما. لقد تركوا الكلام عنه لمثقفين وكتاب وفلاسفة، مكنتهم حياتهم الآمنة والمطمئنة، المريحة الحرة والمجزية، فيما يسمونه المنافي والغربة، من الانصراف إلى ترف الكتابة عنه والتفلسف في شؤونه وشجونه.
أما هم- لاجئو المخيمات الجماعية الفارون إلى أوروبا طلبا لنجاة من البؤس والقهر والعسف والفقر في بلادهم، بلاد الأهوال القاتلة- فيكاد أملهم الوحيد يقتصر على اجتياز امتحان اللجوء بنجاح للحصول على إقامة مستقرة ومسكن لائق يؤويهم، وعمل يؤمن لهم ولعائلاتهم لقمة عيش كريم، ولأبنائهم التعليم والأمان ومستقبلا يخلو من التعاسة والقلق والقسوة التي حملتهم على الرحيل القسري ومشقاته ومخاطره المميتة في أحيان كثيرة. وربما يحاول بعض أفراد من جيلهم الثاني أو الثالث التفكير في مسألة الهوية والمنفى والكتابة عنهما.
لاجئو المخيمات الجماعية الفارون إلى أوروبا طلبا لنجاة من البؤس والقهر والعسف والفقر في بلادهم، بلاد الأهوال القاتلة، أملهم الوحيد يقتصر على اجتياز امتحان اللجوء بنجاح
أدوية الوحشة
لا يقطع سكون الحياة الجديدة المستعارة التي يعيشها لاجئو المنتجع- المخيم الهولندي، سوى أصوات قليلة تُسمع لها أصداء متباعدة في أرجائه. قد تقلل هذه من وحشتهم، وكذلك انشغال بعضهم في تحضير غداء مشترك لنزلاء هذا الشاليه- المهجع أو تلك. وهي معدّة ومؤثثة لاستجمام صيفي، وينزل في الواحدة منها خمسة لاجئين أو ستة. وفي حديقة صغيرة أمام شاليه- مهجع سوريين كانت نرجيلتان مشتعلتان يتداور على تدخينها ثلاثة من النزلاء، فيما انصرف آخرون إلى تحضير أكلة من الفول المدمس والمتبّل بصلصات متنوعة. والأرجح أن طعام الغداء هذا، مع النراجيل وكؤوس الشاي، هي دواء وحشة سوريي المخيم المكتومة.
وهناك أجهزة الهاتف المحمول التي لا غنى لكل لاجئ في المخيم عنها. وهي وسيلة الاتصال الدائمة مع الهموم والمشاكل في البلاد السورية الدامية والخربة، ومع الأهل الموزعين في عزلات مخيمات البؤس والعنصرية في تركيا ولبنان والأردن. وفجأة قطع أحاديثنا صوت أذان العصر، فخال أحدنا أن الأذان يصل من مسجد أو مصلى في المخيم، قبل أن يوضح أحد مضيفينا أن هاتفه مبرمج تلقائيا على إطلاق الأذان في مواعيده، وليس من مسجد أو مصلى في المخيم. وسرعان ما دارت مناقشات حامية بين لاجئين سوريين عن "ظلم ذوي القربى" في الدين وفي البلاد العربية والتركية، وعن حسن استقبال أهل البلاد الهولندية والألمانية اللاجئين الفارين من تلك البلاد.
سأم وقنوط ثقيلان
ليس من حياة وشبكات علاقات مشتركة بعدُ بين النزلاء الكثيرين في شاليهات- مهاجع المخيم الهولندي، متعددي الجنسيات والثقافات والطبائع، ولا بين غالبيتهم السورية. فالتحفظ وشيء من الكتمان والحذر في الكلام والتواصل، لا تزال علاماتهما حاضرة بين النزلاء. ولربما لم يتكون بعدُ في المخيم الجديد ما يمكن نزلاءه من تعارف وتواصل يخرجانهم من انكفائهم وعزلاتهم. فهذا قد يحتاج إلى تراكم الزمن وحوادث ولقاءات ومصادفات تكسر تشابه الأيام والأوقات.
جولتنا على بعض الشاليهات- المهاجع السورية التي تواصلنا مع شبان من نزلائها، كشفت عن حياة داخلها غيرها تماما في فسحاتها الخارجية، حيث الشجر والعشب والهواء الصيفي الطلق والبارد قليلا في نور شمس تبزغ أحيانا لطيفة خفرة من بين غيوم عابرة. كان الوقت ما بعد الظهر بقليل. وبدا الشابان السوريان الجالسان إلى طاولة أمامهما، كأنما استيقظا قبل قليل من نوم ثقيل ترك على وجه كل منهما مسحة شحوب داكنة تتراءى ظلالها في هواء المهجع الداخلي.
سأم الشابين وقنوطهما المكتومان صعّبا استدراجهما إلى الكلام، وجعلا سؤالنا إياهما عن أحوالهما أشبه بتطفل أو اعتداء على انصراف كل منهما إلى شاشة لابتوب أمامه، بدا لنا أنه شبيه بأشغال شاقة مجانية ومختارة.
قال أحدهما إنهم ستة في هذا الشاليه- المهجع. وقال آخر إن اثنين من الستة ربما ذهبا إلى عمل مؤقت وعابر تدبّراه في مدينة لاهاي القريبة. وهناك اثنان لا يعلمان إلى أين ذهبا. وإلى جانب صالة الجلوس الصغيرة، رأينا جانبا من غرفة نوم تتراكب فيها أسرة، كتلك التي يحبها فتيان فيما هم يغادرون الطفولة إلى المراهقة. وهي من تجهيزات الشاليهات الأسرية في المنتجع الصيفي المستأجر نصفه ليصير مخيم إيواء لاجئين.
الصمت الثقيل الذي ساد بعد كلمات الشابين القليلة، من دون التفاتهما إلينا تقريبا، حملنا على عدم إطالة مكوثنا في الصالة الصغيرة، وعلى تركنا إياهما لانصرافهما إلى اللابتوب، واستحال أن نخمن ماذا يتابع أو يشاهد كل منهما على الشاشة أمامه في هذا الصمت الثقيل.
رقص للاجئي روتردام
في روتردام تابعت "المجلة" تنظيم حملة جمعيات مدنية هولندية شارك فيها قدامى مهاجرين من سوريا واليمن ولبنان في هولندا، لكسر عزلة لاجئين سوريين وعراقيين وأفارقة وصلوا حديثا في أغسطس/آب الماضي، وأنزلتهم إدارة اللجوء الهولندية في بيوت- مراكب عائمة على شاطئ المدينة.
استعار منظمو الحملة نشاطهم الفني الراقص من برنامج سابق نفذوه لكسر عزلات الناس أثناء تفشي وباء كورونا (2020- 2021). وبدأوا بتطبيق حملتهم الجديدة المستعارة والمستعادة لكسر عزلة اللاجئين. وكان هدف نشاطهم الأساسي استدراج لاجئي البيوت- المراكب العائمة والثابتة على شاطئ روتردام إلى الخروج منها، وإقامة صلة ما بهم، بإشراكهم في حلقات راقصة متنقلة على أرصفة الشاطئ.
كان بعض المشاركين والمشاركات في النشاط على معرفة مسبقة عابرة بقلة من نزلاء البيوت. وحمل المنظمون جهازا صغيرا لبث الموسيقى والأغاني من تطبيق يوتيوب في هواتفهم المحمولة، إضافة إلى سندويتشات وقطع من الكرواسون.
على إيقاع أغانٍ عربية وأوروبية، شرع المنظمون في رقص على الرصيف قبالة بيوت اللاجئين. وسرعان ما خرج من البيوت- المراكب رجال وشبان وخالطوا الراقصين/الراقصات رقصهم، فيما تحفظ بعض اللاجئين، وانتحوا جانبا، أو وقفوا متفرجين على الجسور الصغيرة بين الرصيف والبيوت العائمة. أما النساء اللاجئات فوقفن يتفرجن على المشهد الراقص من خلف زجاج نوافذ بيوتهن. كن محجبات في معظمهن. صبية سورية من المشاركات في تنظيم الحملة، قالت لزميلتها الهولندية: انظري إنهن يتفاعلن من خلف النوافذ. وأضافت متسائلة: لماذا لا ندخل إلى الرقص معهن داخل بيوتهن؟ لكن المرأة الهولندية ذكرتها بأن بلدية روتردام التي سمحت بتنظيم نشاطهم، اشترطت بقاءهم على الرصيف وعدم دخول المنظمين إلى بيوت اللاجئين، إلا إذا دعوهم هم إلى دخولها.
وتزايدت حلقات الرقص التي شارك فيها رجال من اللاجئين من دون النساء. وربما ساعد الطقس الصيفي بنوره الصافي في إخراج لاجئين كثر من بيوتهم العائمة على الماء.
استمر المشهد زهاء ساعة من الرقص الذي تخللته وقفات تعارف وأحاديث على الرصيف، قبل أن تفاجئ الطبيعة الحشد بزخات من مطر. فالطقس الهولندي سريع التقلب. وحاول منظمو الحملة تدارك المفاجأة بالشروع مجددا في الرقص الذي لم يعد اللاجئون الرجال يجارونهم فيه تحت زخات المطر. بل عاد معظمهم إلى البيوت. وبالرغم من تواصل زخات المطر استمر المنظمون في رقصهم متنقلين على الرصيف. كانت بينهم صبية سورية محجبة، قالت لزميلاتها وزملائها، بعدما أحست ببلل في ثيابها: علينا أن نغادر، وإلا اعتبر مشاهدونا من اللاجئين المتفرجين علينا أننا مصابون بشيء من جنون، فيما نحن نواصل رقصنا مبللين بزخات المطر.
لا يتكون في المخيم الجديد ما يمكن نزلاءه من تعارف وتواصل يخرجانهم من انكفائهم وعزلاتهم. فهذا قد يحتاج إلى تراكم الزمن وحوادث ولقاءات ومصادفات تكسر تشابه الأيام والأوقات
يوميات مخيم هولندي
وكان نهار الثلاثاء نهار اجتماع اللاجئين كلهم في مخيمهم قرب لاهاي. الكل مضطر إلى الحضور. ومن يخرجون منه لعمل أو انشغال ما، عليهم العودة، لأن الثلاثاء من كل أسبوع هو نهار إثبات الحضور ("البصمة" في لغة اللاجئين الدارجة). وقد وزعت إدارة المخيم اللاجئين مجموعات تحوي كل منها مئة "شالية- مهجع" (أي نحو 500 شخص) لتنظيم عملية إثبات الحضور. وكل مجموعة من الثلاث تذهب إلى مقر إدارة المخيم في وقت محدد.
من ليس لديهم مشاغل خارج المخيم، لا فرق لديهم بين نهار الثلاثاء وسواه من أيام الأسبوع. وأحيانا يخطئ البعض في تعيين أيام الأسبوع، بسبب تشابه أوقاتها وإيقاعها. وهناك لاجئ أو اثنان سوريان يأتي كل منهما إلى زيارة قريبه مرة في الأسبوع. يأتي القريبان في سيارتيهما من لاهاي. وروى أحدهما أنه يشتري حاجياته من لاهاي بأسعار أرخص من أسعار البقالات أو محال الألبسة في البلدة الصغيرة التي يقع "المنتجع- المخيم" غير بعيد منها، وتعد واحدة من عشر بلدات يسكنها أغنياء هولندا.
استبقت إدارة المخيم الإجراءت الإدارية والقانونية التي قد تطول لتوزيع اللاجئين وانتقالهم إلى وصاية البلديات، بسماحها لمتطوعين هولنديين بتقديم دورات لغة هولندية وإنكليزية للراغبين من اللاجئين الذين تزاحموا على تعلم الهولندية، مقابل عدم كفاية عدد المتطوعين لتعليمها. لذلك أرغم كثيرون على الاكتفاء بتعلم الإنكليزية. وهي لغة أساسية في البلاد إلى جانب الهولندية.
في واحدة من حصص تعلم الإنكليزية عرضت المعلمة مقطع فيديو من قناة تلفزيونية أميركية يتحدث عن انقلاب الغابون. لم يستطع أحد اللاجئين العراقيين كبح جماح رأيه. فراح بحطام لغته الإنكليزية يتكلم عن المؤمرات الاستعمارية في العالم. وبعد خروجه من قاعة الدرس سُمع يقول لزميل له إن هدفه من الكلام كان تدريب لسانه على التحدث بالإنكليزية. وكان المشاركون في الدورة من جنسيات كثيرة: سورية وتركية وعراقية وصومالية وسودانية، إلى أخرى مختلفة، كحال نزلاء المخيم.
بعض المنظمات الصحية التطوعية تقدم خدمات طبية للاجئين، ومنها مركز للعلاج الفيزيائي قريب من المخيم. وروى لاجئ سوري أن معالجه في المركز أسهب في أسئلته لاستيعاب ماذا يحدث في سوريا. لكن عجز المريض عن التحدث بالإنكليزية حال دون ذلك. وهناك عدد من اللاجئين بدأوا يستعملون للمرة الأولى في حياتهم الدراجات الهوائية في تنقلاتهم اليومية، علما أن معظم نزلاء المخيم من الفئات العمرية الشابة، وبينهم شابات من بلدان أفريقية.
يداوم في المخيم موظفون ومتطوعون ساعتين يوميا، للاستفسارات وتلقي شكاوى اللاجئين. وهناك أيضا الخط الساخن المتاح استخدامه في حال حصول أي طارئ. ودوما هناك من يساعد في الترجمة من لغات اللاجئين المختلفة إلى لغات أخرى. وروى لاجئ سوري أنه استغرب متفاجئا حين علم أن لاجئين صوماليين لا يتكلمون اللغة العربية، التي كان يعتقد أنها لغتهم الأم، فإذا بهم يتكلمون لغتهم الخاصة التي لا صلة تجمعها بالعربية. وفي المخيم متطوعون للترجمة من الروسية والأوكرانية ومن لغات جنوب الصحراء الأفريقية، إضافة إلى التركية والعربية طبعا.هذا يعني أن جهدا كبيرا ومقدرات كبيرة تبذلها إدارة مخيمات اللجوء ومنظمات التطوع، وهذه أفرادها مدربون على التعامل مع الثقافات واللغات المختلفة.
حين يجتمع بعض اللاجئين من جنسية مشتركة في الفسحات أمام مساكنهم المشتركة، غالبا ما تسيل في أحاديثم الذكريات عن الماضي، لا عن الحاضر ولا عن المستقبل. فالأول كثيف وسيّال، بالرغم من أنه انقضى وبدأ يبتعد. والثاني متكرر وتندر فيه الحوادث. والثالث مجهول. وقد قال أحد السوريين إن ما ذهب من أعمارنا أكبر بكثير مما سيأتي، بالرغم من أن معظم نزلاء المخيم من أعمار فتية.
هناك وسائل للتسلية متاحة للجميع: من طاولات بلياردو وكرة طاولة، إضافة إلى أدوات التنس، وملعب لكرة القدم. وغالبا ما ينشغل البعض باتصالات هاتفية بأهلهم وأصدقائهم المنتشرين في بلاد كثيرة. ويتابع كثيرون وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون الذكي الموجود في كل منزل. وهناك النراجيل المشتعلة والاستماع إلى أغان مختلفة، فيما تسيل أحاديث الماضي. لكن هناك من يحدق صامتا ساهما في العصافير والطيور الملونة التي تطير حرة مطمئنة هنا وهناك وعلى الأشجار. وكثيرا ما يعبر على العشب سنجاب يلهو متنقلا، قبل تسلقه جذع شجرة وتقافزه بين أغصانها.
لاجئون يرقصون
وأحيت منظمة "COA" (Centraal Orgaan opvang asielzoekers )، الهيئة المركزية لإيواء اللاجئين بالتعاون مع متطوعين من نزلاء المخيم،حفلة راقصة شارك فيها النزلاء جميعهم تقريبا. نصبت منصة عليها أجهزة صوت ومنسق موسيقى (دي جيه).وعلى أطراف ساحة المخيم الرئيسة نصبت خيام مخصصة للطعام والشراب والحلوى، ويقف فيها متطوعون من نزلاء المخيم مع عاملين في المنظمة التي تدير شؤونه. على بطاقات الدعوة التي وزعت لحضور الحفلة صورا للمأكولات والمشروبات المعروضة في الأكشاك على أطراف الساحة.
قدمت وجبة كبسة مع وجبة بازلاء وأرز وقطعة سمك وبطاطا مقلية، وعلبة صغيرة من قطع فواكه متنوعة وحلوى ونصف رغيف خبز ومشروبات غازية وغزل البنات.
وبدأت الحفلة في الثالثة بعد الظهر تقريبا، ببث أغان أجنبية. وسرعان ما بدأ الرقص مهما كان اللون الغنائي أو الموسيقى التي يبثها الـ"دي جيه". وكانت الأزياء متنوعة. بعض السوريين كان يلبس زيا بلديا تقليديا: حطات وعقالات ودشداشات. واشتعل الضحك في الساحة. وذكّر أحد المتفرجين زميله بالأوقات العصيبة التي قضاها الجميع في طريق الهجرة الطويل، مشيرا إلى الأخبار المؤلمة الآتية من تركيا عن السوريين الذين قتلوا لأسباب عنصرية، وعن المضايقات والرعب الذي يعيشونه هناك، وعن أخبار السوريين الآتية من لبنان الذي يتسلط عليه "حزب الله".
رقص لاجئو المخيم الفارون من بلاد شتى على أنغام أغاني بريتني سبيرس ومايكل جاكسون. وعلى أنغام أغاني الدبكة اللبنانية والسورية والعراقية. وكذلك على أغان تركية. وشارك الجميع بالدبكة الكردية.
وفجأة طلب السوريون- وهم الغالبية- من منسق الأغاني الاستمرار في بث أغاني الدبكة التي كانوا يرقصون على إيقاعها، بعدما استبدلها بسواها. لكن المنسق لم يستجب وقال إن المشاركين في الاحتفال من جنسيات وثقافات متنوعة، وعليه أن يراعي جميع الأذواق.
ولم يمنع المطر من استمرار الاحتفال ساعات عدة. استمر البعض بالدبكة تحت المطر، فيما أوى كثيرون إلى الخيام المنصوبة في الساحة، منتظرين توقف المطر للمشاركة مجددا في الرقص والغناء مع منسق الأغاني. ومنهم من أخذ طعامه إلى الغرفة، لتناوله مع إبريق من الشاي وتدخين نرجيلة.
شبان احتجاجات دوسلدورف بدوا أكثر نضارة وإشراقا وحرية من أسلافهم المتظاهرين في مدن سوريا، وغير قلقين ولا خائفين من أن يهاجمهم "الشبيحة"
احتجاجات في دوسلدورف
بعد لقاء "المجلة" يونس السوري (ينزل في مخيم للاجئين قرب مدينة دورين الألمانية الصغيرة، وسجلت رواية رحلته السرية القسرية الأليمة من سوريا ونُشرت في الحلقة الأولى من هذا التحقيق) قال إنه سيذهب في القطار إلى مدينة دوسلدورف (عاصمة ولاية وستفاليا، شمال نهر الراين الذي يمر فيها) للمشاركة في وقفة تضامنية مع احتجاجات أهالي السويداء السوريين ضد حكم الرئيس السوري بشار الأسد. وكان سوريون مقيمون في دوسلدورف قد تداعوا عبر وسائل التواصل إلى تلك الوقفة في 25 أغسطس/آب الماضي.
حضر إلى ساحة قريبة من محطة القطار المركزية في المدينة نحو مئتي محتج يحمل بعضهم أعلام الثورة السورية ويهتفون هتافاتها المعروفة منذ عام 2011. كانوا في معظمهم من الشبان الذين غادروا وضعية اللجوء وحصلوا على إقامات في ألمانيا، وكثرة منهم يدرسون في جامعة دوسلدورف أو في جامعة مدينة كولن على مسافة نحو 50 كلم من دوسلدورف.
كان الطقس صيفيا مشمسا. وتجمع المحتجون في حلقات، واصطفوا على نحو ما كان المتظاهرون في المدن السورية يصطفون في أيام ثورتهم السلمية متشابكي الأيدي متمايلين على أغاني الثورة وأناشيدها. لكن شبان احتجاجات دوسلدورف بدوا أكثر نضارة وإشراقا وحرية من أسلافهم المتظاهرين في مدن سوريا، وغير قلقين ولا خائفين من أن يهاجمهم "الشبيحة" ورجال الأجهزة الأمنية ويعتدون أو يطلقون النار عليهم. وتحلقت في جنبات الساحة جموع من ألمان والمانيات، فراحوا يحيون المحتجين ويصفقون لهم. وبدا المحتجون كأنهم يؤدون مشهدا مستعادا من أرشيف الثورة السورية، شعائرها وطقوسها وشعاراتها. وربما لم يكن المشهد ليختلف كثيرا عن الاحتفال الترفيهي الذي أحيته إدارة اللجوء الهولندية في منتجع- مخيم قرب مدينة لاهاي الهولندية.
وحده يونس، الذي لم يمض بعد أكثر من شهر على وصوله إلى ألمانيا، بدا أنه مرتبك حائر أين يقف وماذا يفعل. كأنه لا يزال بعد أقرب إلى سوريي المهانة والخوف في سوريا ولبنان وتركيا.