صيف 2021 قرر أحمد (41 سنة، لبناني طرابلسي، متزوج ولديه ثلاثة أولاد) سلوك درب الهجرة السرية يأسا من بناء مستقبل جيد له ولأسرته.
كان موظفا في شركة خاصة ببيروت، وراتبه معقول قياسا برواتب الموظفين في لبنان. لكن فكرة الهجرة جذبته، في خضم تزايد اللغط اليومي عنها وتزايد موجاتها الشابة، خصوصا في لبنان، والانهيار السياسي والاقتصادي والمالي.
صديق أحمد المقرب الذي يجالسه يوميا في مقهى بطرابلس، وصل بقارب هجرة سرية مع عشرات الشبان إلى إيطاليا. ومن مخيم إيواء اللاجئين هناك راح يحادث أصدقاءه بلبنان، ويرسل إليهم صورا مغرية أعجبت أحمد وحمسته على الهجرة، فزوده صديقه بطريقة للتواصل مع مهربين. والمهربون لا يتعاملون مباشرة مع الراغبين في الهجرة، بل عبر وسطاء. التقى أحمد بالوسيط في مدينة الميناء قرب طرابلس. فإذا به صاحب محل بقالة صغير. لست مهربا ولا علاقة لي بهذا المجال، وما أنا إلا وسيط، قال الرجل لأحمد الذي وجد أنه أمام خيارين:
الهجرة بواسطة شبكة مهربين متخصصين ومتمرسين بكلفة مالية عالية.
الاتفاق مع مجموعة أشخاص على شراء مركب يقلهم مع عائلات أخرى إلى الساحل الإيطالي، للتخفيف من كلفة الرحلة المالية، بزيادة عدد الركاب. وهذه العملية قد تؤدي بالبعض إلى احتراف التهريب.
رأى أحمد أن الخيار الأول أكثر كلفة وخطرا. فالمهربون يطلبون 7.500 دولار على الشخص، والرحلة بقارب خشبي صغير معرض للانقلاب في البحر. وهم تجار يزيدون حمولة مراكبهم فتفوق قدرتها على الاحتمال. أما الخيار الثاني فأقل كلفة (5 آلاف دولار للشخص الواحد) وخطرا، وهو أفضل تقنيا. ومنظِم الرحلة يكون على متن المركب.
وتعرف أحمد إلى شخص في مدينته يسعى إلى تنظيم رحلة هجرة بحرية سرية عائلية موسعة (زوجته وأولاده ووالد زوجته، وعديلاه وعائلتاهما، وسواهم من معارفه الراغبين). وذلك في قارب يتسع لنحو 200 شخص. اطمأن أحمد للأمر. فالرجل ليس مهربا ولا يعمل لجني أرباح، فسدد له نصف المبلغ المطلوب (5 آلاف دولار) عنه وعن زوجته الحامل بابنتهما الثانية، وولداه الآخران مجانا.
وذكر أحمد أن غالبية مهاجري الرحلة عائلات وقلة من الشبان العزاب الحالمين بمستقبل مشرق في أوروبا.
كثيرون في رحلات الهجرة السرية الاحتيالة من المتعلمين وحملة الشهادات، وبينهم طهاة يحملون شهادات فندقية وأصحاب اختصاصات مهنية، وهاربون من الأسلاك العسكرية اللبنانية
احتيال أم قلة خبرة؟
مدّد منظم الرحلة موعدها ثلاث مرات. تحدث عن انتظار ظروف مناخية وأمنية ملائمة. أخيرا حدد الموعد وطلب من أحمد تسديد الشطر الثاني من المبلغ، فباع لذلك منزله. لكن الرحلة أجلت مجددا. ومر شهر والرحلة مؤجلة، فتصاعدت الشكوى. أخيرا جُمع المشاركون فيها في منتجع بحري في القلمون شمال طرابلس، وأُخذت منهم هواتفهم، تمهيدا للانطلاق. مرت 24 ساعة من الانتظار. واكتشف أحمد أن بين المهاجرين شبان من معدمي حي باب التبانة الطرابلسي، ومدمني الحشيشة. ودهمت دورية من استخبارات الجيش المنتجع في منتصف الليل، وأبلغ ضباط الدورية نزلاء المنتجع أنهم ضحية عملية نصب واحتيال.
منظم الرحلة اختفى. وأحمد الذي باع منزله وخسر أمواله، نزل وأسرته ضيفا ثقيلا عند أقاربه. وأشار إلى أن كثيرين من زملائه في رحلة الهجرة السرية الاحتيالة من المتعلمين وحملة الشهادات، وبينهم طهاة يحملون شهادات فندقية وأصحاب اختصاصات مهنية، وهاربون من الأسلاك العسكرية اللبنانية. وقال إنه لا يزال على تواصل مع منظم الرحلة، وينتظر فرصة هجرة سرية جديدة للخروج من لبنان، كأنه دخل في دوامة أو نوبة إدمان.
الضباط وإتاوات الموت
الأرجح أن قلة خبرة منظم الرحلة هي سبب فشلها. فلربما فاته أن رحلات التهريب تحتاج إلى تواطؤ مع ضباط أجهزة أمنية رسمية ودفع إتاوات لهم، أو أنه لم يشأ أن يدفع تلك الإتاوات. وهذا ما بينته رحلات تهريب لاحقة معروفة ومفجعة، نسجت على منوال رحلة أحمد ومهربها المتواري؛ فبعدما جرّب رائد دندشي (وهو من عكار شمال طرابلس) حظه في رحلة هجرة سرية متعاونا مع مهربين محترفين، وتعرض مركبه لعطل في المياه الإقليمية اللبنانية وضبطه خفر السواحل اللبناني وأعاد من كانوا على متنه إلى الشاطئ، بعد ذلك قرر دندشي شراء مركب خاص واصطحاب زوجته وأبنائه وشقيقيه وعائلتيهما، إضافة إلى أشخاص آخرين يريدون الهجرة ويشاركونهم في تحمل التكلفة. وهو في ذلك اتخذ رحلة أحمد ومهربها مثالا وقدوة. لكن طمع دندشي حمله على أن يحمل 100 شخص في مركبه الصغير الذي لا تتجاوز سعته 50 شخصا.
وكان دندشي يعلم أن رحلته تعرضت إلى وشاية من مخبري الأجهزة الأمنية، لكنه أصر على تسييرها، من دون أن يدفع لضباط الأجهزة الأمنية الإتاوة المطلوبة للمرور. لذا تعرض قاربه لحادث مأساوي في شهر أبريل/نيسان 2022 على تخوم المياه الإقليمية اللبنانية: اصطدم بطراد للجيش اللبناني كان يلاحقه ويحاول إعادته إلى الشاطئ. وأسفر الحادث عن مقتل نحو 40 شخصا من شبان وشابات وأطفال، بينهم زوجة دندشي وثلاثة من أبنائه، وزوجة شقيقه وابناه.
وحسب محامي الدفاع عن أهالي ضحايا القارب، واستنادا إلى الشهادات والتحقيقات، فإن ما حصل كان مقصودا لأن المنظمين لم يدفعوا الإتاوة. وذكر المحامي محمد صبلوح، مؤسس ومدير مركز "سيدار" لحقوق الإنسان أن الضابط المسؤول عن الدورية البحرية التي صدمت المركب- وهو من قرية في شمال لبنان- جرى تهريبه إلى خارج لبنان خوفا من انتقام عائلات الضحايا. وصرح شقيق منظم الرحلة لمحطة تلفزيونية بأنهم رفضوا دفع إتاوة المرور وهذا ما تسبب في الفاجعة.
منذ سنة 2019 نشطت عمليات الهجرة السرية على شاطئ طرابلس والميناء والقلمون شمالي لبنان. وحتى سنة 2022 تمكنت الأجهزة الأمنية اللبنانية من توقيف رحلات قبل أو بعيد انطلاقها بقليل. وذلك بالاتفاق مع منظمي الرحلات الذين كانوا يتقاضون الأموال من ضحاياهم ويبلغون الأجهزة الأمنية التي توقف الرحلات. لكن بعض الرحلات تمكنت من كسر الرقابة والوصول إلى مبتغاها. ومنها ما وقع في قبضة خفر السواحل القبرصية أو اليونانية.
غير أن الحوادث المأساوية تكررت: غرق قارب بسبب حمولته الزائدة قبالة جزيرة أرواد السورية في سبتمبر/أيلول 2022، ما أدى إلى وفاة نحو 100 شخص. وورد في التحقيقات وشهادات الناجين أن إتاوة مرور دُفعت وبلغت نحو 140 ألف دولار. ضخامة المبلغ تشير إلى أنه ليس لشخص واحد بل لمجموعة ضباط معنيين بمراقبة الشواطئ اللبنانية. وعام 2022 بلغ عدد ضحايا مثل هذه الرحلات 182 شخصا.
وراجعت منظمات إنسانية وحقوقية السلطات اللبنانية بسبب انعدام الشفافية والجدية في التحقيقات حول قوارب الموت. وفي تحقيق سابق حول القارب الذي غرق في أبريل/نيسان 2022، وقبله قارب نفد منه الوقود في عرض البحر سبتمبر/أيلول 2019 وتوفي نحو 7 أشخاص كانوا على متنه، تبين وجود تعاضد بين صيادي الأسماك وسائقي مراكب رحلات سياحية إلى الجزر الثلاث قبالة شاطئ طرابلس في مدينة الميناء. ويمتنع الصيادون عن إعطاء أي معلومة عن المهربين، رغم أن الميناء مدينة بحرية يعمل عدد كبير من أبنائها في البحر. وبينهم من امتهن التهريب واحترفه، بعدما بدأت تنشط حركة الهجرة السرية المتوسطية منذ تدفقت موجات اللجوء السوري إلى لبنان ربيع 2011.
في السنوات الأخيرة، تحول الساحل الشمالي اللبناني قاعدة للهجرة السرية البحرية وقد بدأت هذه الظاهرة عام 2011 بعد اندلاع الأحداث في سوريا
بين عكار وليبيا
في السنوات الأخيرة، تحول الساحل الشمالي اللبناني الممتد من مدينة البترون مرورا بمدينة طرابلس والميناء والمنية وصولا إلى بلدة العريضة المحاذية للحدود السورية، تحول قاعدة للهجرة السرية البحرية. وقد بدأت هذه الظاهرة عام 2011 بعد اندلاع الأحداث في سوريا. ثم تطورت ونمت بتعاقب السنوات، وشملت إلى السوريين عشرات الشبان اللبنانيين، فتحولت تجارة احترفها مهربون لبنانيون ما كانوا ينتمون إلى عالم التهريب. لقد جذبتهم أرباح هذه التجارة السوداء.
وبالرغم من تشديد الجيش اللبناني مراقبة الشاطئ، لم تتوقف محاولات الهجرة على مدار أشهر السنة، وهي تنشط في فصل الصيف ومطلع الخريف عندما يكون البحر هادئا. ويتركز انطلاق قوارب الهجرة في ساحل عكار. وذلك بسبب ضعف الرقابة هناك، والقرب من الحدود السورية.
وفي كل شهر، يعلن الجيش اللبناني عن توقيف عدد من الرحلات قبل انطلاقها. وفي شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أعلن في بيانات رسمية عن توقيف مهربيْن لبنانيين. وبعد مداهمة منزل أحدهما أوقف الجيش 48 سوريا كانوا يتحضرون للهجرة عبر البحر. وأعلن الجيش عن إنقاذ مركب مهاجرين قبالة ساحل مدينة البترون يوم 23 سبتمبر/أيلول الماضي، وكان على متنه 27 مهاجرا كلهم سوريون.
وتتنوع الأساليب التي ينتهجها المهربون للتفلت من رقابة الجيش، فبعد أن كانوا يستأجرون غرفا في منتجعات لإيواء المهاجرين، صاروا يوزعونهم على منازل لإبقائهم خارج دائرة رقابة الجيش، بعدما عممت استخباراته على أصحاب المنتجعات والفنادق ضرورة إبلاغها في حال اشتباههم بنزلاء يتحضرون للهجرة. لكن المهربين طوروا أساليبهم: أخذوا يرسلون الأشخاص المراد تهريبهم في قوارب صغيرة لا تلفت الأنظار، ويكون قارب الهجرة ينتظرهم خارج المياه الإقليمية اللبنانية.
وهذا ما حصل مع ركاب القارب الذي غرق في سبتمبر/أيلول 2022 قبالة جزيرة أرواد السورية نتيجة حمولته الزائدة، وعدد من كانوا على متنه لا يزال مجهولا. وقيل إنهم مئة ضحية، وتشير التقديرات الرسمية إلى ما يزيد على مئتين، غالبتيهم سوريون، وبينهم فلسطينيون مقيمون في لبنان. هذا عن القوارب التي ضبطت وأعلن عنها. أما المراكب التي نجحت في الخروج من المياه اللبنانية فيصعب إحصاؤها.
وحسب معلومات مصادر أمنية، يكمن سبب الارتفاع الهائل في حركة الدخول غير الشرعي للسوريين إلى لبنان في رغبتهم في الهجرة السرية بواسطة شبكات التهريب في لبنان. وبعضهم يدخل لبنان قبل ساعات قليلة من انطلاق الرحلة، ويذهب مباشرة إلى المركب. أما الإقامة والعمل في لبنان فليسا في حسابات هؤلاء في ظل ندرة فرص العمل وحملات الكراهية ضدهم.
"ابتكارات" المهربين
أخذ المهربون يعتمدون طريقة جديدة، وهي تسير مركبين اثنين معا في الوقت نفسه، وفي طريقين بحريين مختلفين، فإذا وقع مركب في قبضة الجيش اللبناني، ينجو الآخر ويتابع طريقه. وهذا ما حصل مرات عدة، وفي واحدة منها انطلق مركبان معا في 11 أغسطس/آب الماضي من شاطئ بلدة الشيخ زناد في عكار القريبة من الحدود السورية، وعلى متن كل منهما 110 أشخاص، غالبيتهم من السوريين مع بضع عائلات لبنانية. أوقف الجيش واحدا بينما تابع الثاني طريقه. والمركبان نظمت رحلتهما شبكة عائلية في عكار لم تحترف التهريب بعد. لكن تهريبها عددا كبيرا من السوريين يعني أنها تتداخل مع شبكات التهريب المحترفة.
والمركب الذي نجا من قبضة الجيش- وحتى لا يقع في قبضة خفر السواحل القبرصية أو اليونانية- سلك قائده طريقا يتجه إلى شمال أفريقيا قبالة الشاطئ التونسي، ومن ثم اتجه نحو الشاطئ الإيطالي في صقلية. لكنه وقع في قبضة فرقة تابعة لقوات المشير الليبي خليفة حفتر تدعى فرقة طارق بن زياد، وهي مكلفة بخفر السواحل الليبية. وينسجم ما تقوم به فرقة طارق بن زياد مع نشاط مماثل للقوات التابعة لحكومة عبدالحميد الدبيبة بتمويل من الاتحاد الأوروبي: مكافحة ظاهرة الهجرة السرية البحرية.
إحدى السيدات التي كانت على متن القارب قالت في حديث لـ"المجلة" إن العائلات اللبنانية من بلدة ببنين الساحلية في عكار، واشتروا القارب بالشراكة فيما بينهم، بعد بيع منازلهم وأثاثها. وقالت إنها هاجرت مع أبنائها وأقاربها وتركت زوجها في لبنان، وهو جندي في الجيش. وقد استأجروا منزلا في ليبيا بمنطقة خاضعة لنفوذ الجنرال حفتر. وبدأ الرجال يبحثون عن عمل. وأكدت أن فكرة العودة إلى لبنان غير واردة لأي من الأشخاص الـ110، وأن رغبتهم هي الوصول إلى إيطاليا. لكن مركبهم أصيب واحد من محركاته برصاصة من خفر السواحل، ولم يعد صالحا للاستخدام، ولا يملكون المال أو الوسيلة للانتقال إلى إيطاليا.
من الصحراء إلى البحر
في محطة الحافلات في إحدى المدن التونسية يودع آخر أحبته ويتجه نحو المجهول (الحدود الليبية)، في مغامرة سبقتها طرق وعرة للخروج من مخيم اليرموك في دمشق إلى بيروت، ومنها إلى تونس. المساحات شاسعة في الطريق إلى بن قردان (مدينة في أقصى جنوب تونس الشرقي قرب الحدود الليبية). وهي محطة المهربين الأخيرة التي ينقلون منها ضحاياهم إلى مدينة زوارة الليبية.
من بن قردان، في مقعد خلفي لسيارة رباعية الدفع، يجلس محمود خاليا من كل شيء (أوراقه الثبوتية، وما تمكن جمعه من نقود، وبضعة أشياء أخرى)، كلها صادرها المهرب التونسي ليسلمها إلى زميله الليبي عند الوصول إلى المعبر الحدودي. يتسلم الليبي محمود ومقتنياته ويذهب بهما إلى شاطئ البحر، حيث يتجمع المنفيون قسرا أو بإرادتهم. هناك يلتقي غرباء بانتظار القارب/ التابوت الذي يحمل بعضهم إلى شاطئ الشمال وبعضهم الآخر إلى قاع البحر.
للوصول إلى أوروبا طريقان: البحر المشاع والبر الذي تكثر فيه الدول والحدود والجبال والغابات وعشرات الفخاخ. من ينجو يتابع العيش مع ذكريات أقرب إلى كوابيس.
أخذ المهربون يعتمدون طريقة جديدة، وهي تسير مركبين اثنين معا في الوقت نفسه، وفي طريقين بحريين مختلفين، فإذا وقع مركب في قبضة الجيش اللبناني، ينجو الآخر ويتابع طريقه
الطريق الأكثر فتكا
يعد الطريق البحري للتهريب، والممتد من ليبيا حتى صقلية الإيطالية، من أخطر الطرق إلى أوروبا الغربية. طائرات تديرها وكالة "فرونتكس" التابعة للاتحاد الأوروبي، تراقب هذا الطريق البحري بين ليبيا وإيطاليا؛ فمنذ عام 2014 أصبح وسط البحر المتوسط أكثر طرق الهجرة المعروفة فتكا في العالم: نحو 24 ألف حالة وفاة، حسب التقرير الذي أعدته "ميدل إيست آي" للكاتبة كاترين هيرست.
الطرق المؤدية إلى الشواطئ الليبية الآتية من تونس ومصر لا تقل خطورة. ثمة مساحات شاسعة من الصحراء القاسية تفصل مصر عن ليبيا. وثمة معبر واحد لدخول الأراضي الليبية: "مساعد- السلوم"، ولا خيار سواه.
هذا المعبر هو الخطوة الأولى في رحلة الهجرة السرية. بعد النجاح في دخول الأراضي الليبية، غالبا ما يقع المهاجرون فريسة شبكات التهريب المنتشرة على طرفي الحدود.
إسماعيل شاب نجح في الوصول إلى فرنسا بعد أن اجتاز رحلة العبور من مدينة دارفور شمال السودان وحتى إيطاليا مرورا بالأراضي الليبية لتنتهي رحلته في جنوب فرنسا. بعد نجاحه في عبور الحدود الليبية وقع إسماعيل في قبضة إحدى الميليشيات الليبية فاقتادته إلى معسكر احتجاز. يقول: "هناك أصبحت عبدا! هذا ليس مجازا ولا مشهدا من فيلم تاريخي يروي حكاية العبودية. تحولت فعلا إلى عبد معتقل في المعسكر. سلعة قابلة للمبادلة، تتفاوض عليها الميليشيات الباحثة عن مقاتلين أو عبيد للعمل. واستمر الأمر على هذه الحال نحو عامين. بعدها تمكنت من الهرب باتجاه الشاطئ حيث ركبت القارب مثل المئات غيري وتوجهت عبر البحر إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا.
القارب– التابوت
يتجمع الهاربون من الموت فرادى وجماعات على الشاطئ الليبي بانتظار اكتمال أعدادهم لنقلهم إلى قوارب الهجرة السرية إلى شواطئ إيطاليا. وصل محمود السوري مساء إلى زوارة. قاده المهرب إلى تجمع من الأجساد الملونة تتجمع قرب الشاطئ. يقول: "كان هناك مهاجرون من جنسيات مختلفة، سوريون، مغاربة، سودانيون، ومصريون... جميعنا ننتظر اكتمال الرحلة. في الساعات الأولى من الفجر، وبعد مضي بضعة أيام على وصولي، صرخ المهرب قائد الرحلة بأن نصعد إلى القارب المطاطي الذي يوصلنا إلى القارب الخشبي، وأمرنا بإلقاء كل أمتعتنا باستثناء أوراقنا الشخصية وقنينة ماء ضرورية للطريق".
عشرات المهاجرين من جنسيات مختلفة، نساء وأطفال ورجال تكدسوا جميعهم على القارب المطاطي، ومنه صعدوا إلى قارب خشبي طوله حوالي 25 مترا. كان خشب القارب متآكلا، وثمة مساحتان فيه: سفلية وعلوية. وروى محمود: "مثل سمك السردين تكدسنا متلاصقين وكدنا نختنق من قلة الهواء. كانت عتمة مطلقة تحيط بنا، ومضى الوقت بطيئا. لم أعلم كيف وصلنا بعدما أنقذتنا بارجة إيطالية. وصحوت على سؤال المسؤول الإيطالي، عندما قال لي: كيف مات الأشخاص الـ46 في ذلك القارب؟ لم أستوعب الأمر، حتى علمت أن أكثر من نصف من كانوا حولي في القارب/ التابوت قد فارقوا الحياة اختناقا".
طريقان تركيان و"تواطؤ" يوناني
طريق الهجرة السرية الثاني ينطلق من تركيا في مسارين: واحد عبر البحر المتوسط نحو الجزر اليونانية، والآخر عبر البر، من تركيا باتجاه غرب البلقان عبر صربيا، والبوسنة، وكوسوفو، وكرواتيا، ومقدونيا، والمجر.. إلخ. ومن هناك على الرحلة أن تنتهي في ألمانيا للذين تكتب لهم النجاة.
من سواحل تركيا الغربية على المتوسط يتجمع الفارون من ويلات بلدانهم قرب البحر بانتظار "البلم"، وهو قارب مطاطي يحمل المهاجرين وينطلق باتجاه أقرب الجزر اليونانية، بتكلفة تتراوح بين ألف وألف وخمسمئة يورو للفرد، على أن يودع المبلغ في مكتب تأمين في إسطنبول وفق كود سري، يعطى للمهرب ما إن تنجح عملية التهريب.
بعد أن ينجح المهاجرون في الوصول إلى اليونان، يُوضعون في مخيم خاص للمهاجرين. وتؤخذ بصمات أصابعهم ومن ثم يمنحون ورقة طرد من اليونان. يُطلق سراحهم لتبدأ رحلة بحثهم عن مهربين ينقلونهم إلى أوروبا الغربية. وهذا يعني أن السلطات اليونانية تسمح مواربة بحملهم على الهجرة السرية من اليونان إلى غرب أوروبا.
أيمن، شاب عراقي كردي، غادر العراق إلى تركيا. هناك تواصل مع مهرب سوري يقيم في تركيا ويعمل في شبكة تهريب تمتد من سوريا حتى ألمانيا.
وعلى الشواطئ الليبية، أيضا، يتجمع المهاجرون في نقطة قرب البحر على الشاطئ الغربي من تركيا. يقول أيمن إنه عندما أوصله مهرب إلى مكان قال إنه قرب أنطاليا، كان هناك حوالي عشرين شخصا مثله من أعمار وجنسيات مختلفة. وزع المهرب عليهم سترات نجاة لا تعدو كونها شكلية؛ فهي لا تعمل. لما صعدوا إلى "البلم" سأل المهرب عمن يستطيع قيادة القارب المطاطي. ثم نظر إليه وقال له: أنت! أنت، من سيقود القارب سأخصم مبلغا من أجر الرحلة المستحق عليك. وبعدها أعطاه سكينا وطلب منه أن يثقب "البلم" ما إن يقترب به من الشواطئ اليونانية، وحذر من كانوا على متنه من أنه إذا قبض عليهم رجال خفر السواحل و"البلم" في حالة جيدة، فإنهم سيعيدونهم إلى تركيا.
أما طريق التهريب البرية من اليونان نحو ألمانيا فتستغرق نحو مئة وخمسين ساعة من المشي للوصول إلى الحدود الألمانية. وتكلف الرحلة حوالي 3 آلاف يورو تدفع للمهرب. في هذه الرحلة يخوض المهاجرون في طرق شديدة الوعورة، تمر عبر الغابات والأنهار، متجنبين خلالها دخول المدن أو القرى المأهولة بالسكان. وثمة على طول الطريق خطر يتربص بالمهاجرين.
حاول أيمن تجنب هذا الطريق البري من خلال بحثه عن جواز سفر مزور أو طرق أكثر أمانا للعبور إلى وجهته الأخيرة في أوروبا الغربية، إلا أنه فشل، وأرغم على سلوك الطريق البري مع مجموعة من المهاجرين الذين التقاهم في المخيم الذي أقام فيه في اليونان.
استغرقت الرحلة التي لم يكتب لها النجاح ثلاثة أيام. لقد كان مع السائرين في تلك الرحلة نساء وبعض الأطفال، فأبطأوا المسير. وروى أيمن: "بدأنا سيرنا في الصباح الباكر، حملت معي في حقيبتي عبوة ماء وبعض المعلبات والإسعافات الأولية. وبالطبع حذرنا أصدقاؤنا الذين سبقونا في مثل هذه الرحلة من البرد وسكان المناطق التي نعبر فيها. لكن بعد مضي نحو ثلاثة أيام، وجدنا أننا في العراء ونتعرض لبرد لم يحدث لي أن عرفته من قبل. كسرت رجل إحدى السيدات فأجبر المهرب دليل الرحلة على التواصل مع الصليب الأحمر. وفعلا أتى فريق من الصليب الأحمر الصربي برفقة رجال البوليس الذين انهالوا علينا ضربا واعتقلونا وأعادونا إلى اليونان، بينما تمكن المهرب الدليل من الهرب".
أعاد أيمن المحاولة في وقت لاحق، وكان قد اكتسب بعض الخبرات من محاولته الأولى. تمكن من الوصول إلى ألمانيا، ومنها توجه إلى فرنسا.
للوصول إلى أوروبا طريقان: البحر المشاع والبر الذي تكثر فيه الدول والحدود والجبال والغابات وعشرات الفخاخ. من ينجو يتابع العيش مع ذكريات أقرب إلى كوابيس
كيف تعمل شبكات التهريب؟
أغلب المهاجرين غير الشرعيين الذين يقصدون طريق غرب البلقان، أو يخوضون غمار البحر للوصول إلى أوروبا، هم من بلدان تعيش ظروفا قاسية. ولا يجد شبابها سوى الهجرة نحو المجهول سبيلا إلى خلاصها.
أتيح لصبر درويش المساهم في هذا التحقيق من فرنسا، أن يتابع عن قرب تحقيقا أوروبيا حول أشخاص كانوا متهمين بارتكاب جرائم حرب في بلادهم، قبل وصولهم إلى أوروبا. لكن التحقيقات كشفت عن تورط هؤلاء في شبكات تهريب البشر وما يرافقها من جرائم كالابتزاز والسرقة، والقتل في بعض الحالات.
واحدة من هذه الشبكات عاين درويش بعضا من آليات عملها، وهي تمتد من الداخل السوري حتى وسط أوروبا. معظم عناصرها من الشبان/المهربين، جمعتهم فيما سبق تجربة قمع المعارضين السوريين وقتلهم أثناء انتفاضتهم منذ عام 2011. وهم من أطلق عليهم السوريون اسم "الشبيحة".
تبدأ رحلة التهريب التي نلقي الضوء على آليات عملها، من الداخل السوري، حيث روى لنا أحد الشبان تجربته مع هذه الشبكة، وكيف أوصلته إلى أوروبا. حسب شهادته تمتد هذه الشبكة من الداخل السوري في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، مرورا بالمناطق السورية الشمالية التي تسيطر عليها قوى عسكرية وميليشيات مختلفة وصولا إلى تركيا. ومن هناك إلى اليونان، ومنها إلى أوروبا، حيث يكون في استقبالهم مهرب تقوم مهمته على إيصالهم إلى وجهتهم الأخيرة.
من المدينة السورية التي انطلق منها الشاب وحتى الحدود التركية ثمة عشرات الحواجز العسكرية سواء للجيش السوري أو الميليشيات المتقاتلة. تقيم شبكة المهربين شبكةمن العلاقات المافياوية تنتشر على طول الأراضي السورية ويتورط فيها ضباط وجنود في الجيش السوري وعصابات مختلفة تنسق معها العمل.
يقول الشاب في شهادته: "انطلقت من مدينتي في وسط سوريا باتجاه منطقة حدودية في الشمال السوري تسيطر عليها قوى عسكرية مختلفة. عبرنا بداية حواجز الجيش السوري وكان واضحا أن عناصر تلك الحواجز يعرفون السيارة التي تقلنا ومن فيها، فكان عبورنا سلسا. وطلب منا المهرب الذي كان معنا أن لا نقلق؛ فقد دفع مسبقا المال للضابط المسؤول عن تلك الحواجز".
بعد عبور القافلة آخر حاجز في منطقة الحكومة تسلمها شاب آخر وعبر بها عشرات الحواجز باتجاه الحدود التركية، حيث تنتهي مهمته هناك، بعد أن يسلم المهاجرين إلى مهرب آخر على الأراضي التركية. وبعد مضي بضعة أيام على وجودهم في تركيا تواصل معهم مهرب جديد. وهؤلاء المهربون جميعهم سوريون كانوا من عناصر "الشبيحة" في وقت سابق.
بعد ركوب القارب المطاطي من تركيا وصولا إلى اليونان، ينتظر المهاجرين مهرب آخر مهمته استقبالهم وتأمين طريق خروجهم باتجاه أوروبا. في المسير باتجاه طريق غرب البلقان، كانت القافلة كلها من الشبان. وبعد أسبوع تقريبا وصلوا إلى ألمانيا، وكان واضحا أن المهربين السوريين الذين تكفلوا بتوصيلهم لديهم شبكة علاقات واسعة في بلدان عدة.
وصل الشاب صاحب هذه الشهادة إلى ألمانيا، وتواصل مع آخر المهربين في الشبكة، وهو من استقبله لمدة يوم، وأخذ منه لقاء ذلك 400 يورو. وبعدها أوصله بسيارته الخاصة إلى وجهته الأخيرة وأخذ منه 500 يوروأخرى،بالرغم من أن الشاب كان قد دفع حوالي خمسة آلاف يورو تتضمن التكاليف كلها المتفق عليها مع شبكة التهريب التي ضمنت وصوله إلى وجهته الألمانية.
تلقي هذه التجربة الضوء على جانب من آليات عمل شبكات التهريب، وخلفية المهربين الاجتماعية والنفسية. فهم جميعا ومن دون استثناء كانوا من مجرمي الحرب السورية وتجري حولهم تحقيقات في أوروبا لهذا السبب، وهذا غير الخطف والابتزاز وحتى القتل. وغالبيهم كانوا قبل عام 2011 يمارسون نشاطات مشبوهة وتربطهم علاقات قوية بأجهزة الاستخبارات السورية. وجميعهم استثمروا في الفوضى التي أحدثها الصراع في سوريا وتحولوا إلى ميليشيات تطورت مع الوقت إلى شبكات تهريب وإتجار بالبشر وتمتد من العمق السوري إلى العمق الأوروبي.
بلاد القهر والفوضى
لا تعدو شبكات التهريب كونها مدماكا صغيرا في آلة التوحش المسؤولة عن خوض مئات آلاف الرجال والنساء والأطفال تجربة الهجرة غير الشرعية أو السرية. والمسألة تمتد إلى أبعد بكثير من شبكات التهريب، على الرغم مما تتحمله من مسؤولية كبيرة على هذا الصعيد. فهذه الشبكات لا تفعل شيئا سوى الاستثمار في الفوضى وانهيار الأنظمة الاجتماعية في بلدان تأكلها الصراعات وتنهشها الأزمات الاقتصادية.
نظرة سريعة إلى واقع البلدان الأكثر تصديرا للمهاجرين غير الشرعيين، تكشف بوضوح الواقع المرير الذي يحاول هؤلاء المهاجرون النجاة منه، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، فحسب تقرير "ميدل إيست آي" سابق الذكر، فإن نحو 20 في المئة ممن يعبرون شواطئ المتوسط للوصول إلى إيطاليا كانوا من المصريين. وأن واحدا من كل ثلاثة مهاجرين مصري؛ فالفقر وغياب الأفق وانهيار شبكات الأمان الاجتماعي في مصر من أهم الأسباب التي تدفع المصريين إلى هذا الخيار الصعب والمميت أحيانا، حسب التقرير المذكور.
ولا تختلف حال الهجرة انطلاقا من الأراضي التركية. فغالبية المهاجرين هناك هم من السوريين الذين دمرت الحرب بلدهم. وكذلك من العراق الذي لم يشف بعد منذ الغزو الأميركي. وأفغانستان تأتي بعد سوريا في أعداد المهاجرين منها. في كل هذه البلدان لا شيء سوى الخراب وانعدام الأفق، والفقر والقمع واضمحلال معنى الحياة.
ولا شيء باستطاعته وقف هذا التيار الجارف نحو أوروبا، رغم مخاطر الموت في سكك الهجرة: لا عشرات الكيلومترات من الأسلاك الشائكة في المجر. ولا الكلاب البوليسية التي تنهش مهاجرين كثيرين. ولا القمع والعنف ومعسكرات الاعتقال، ولا حتى إغراق مراكب المهاجرين في عرض البحر كفيلة بوقف هذه الجرائم.
لا شيء يوقف هذا التيار سوى تغييرات جذرية على صعيد السياسات العالمية، وصعيد الوعي الجمعي الذي يجب أن يؤكد أن البشر يعيشون في عالم واحد، وللجميع الحق المطلق في حياة كريمة، أقل ألما وشقاء وأكثر استقرارا. حياة تنتعش فيها طاقات البشر ويساهمون جميعا وعلى قدم المساواة في صناعة تاريخهم لا تاريخ اغترابهم.