الشعر في كلّ شيء
فالشِّعر عام، ويمكن أن يكون أيّ شيء (نسبيّا)، ويمكن أن يكون في أيّ شيء (نسبيّا أيضا)، ارتباطا "بالشعريّة" الموجودة في الأشياء، وفي الأشخاص، وفي المناظر، وفي الطبيعة، وفي اللغة، وفي الفنون، وفي اللوحات، وفي الأغاني، وفي الحالات، وفي الداخل، وفي الخارج، والأشخاص، والأحداث، ويمكن أن تكون شِعريّة: إنّها شِعر لكن من دون أن تكون قصائد، يُقال مثلا عن موقف فلان السياسي إنّه "موقف شعري"، وعن الشجرة الجميلة إنّها "شعريّة"، وعن حالة إنسانيّة إنّها حالة "شِعريّة"، وعن كلام في الرواية أيضا، والأمثلة لا تحصى: عند دوستويفسكي مقاطع شِعريّة كاملة في "الأخوة كارامازوف"، أو "الجريمة والعقاب"، وعند تولستوي خصوصا في روايته "الحرب والسلم"، وتحديدا عندما يصف تقهقر الجيش الفرنسي في روسيا، وصولا إلى جبران خليل جبران في "الأجنحة المتكسّرة"، ونجيب محفوظ خصوصا في "ثرثرة فوق النيل"، فلدى كل هؤلاء شِعر في رواياتهم… مقاطع شِعريّة خالصة، أو شخصيّات أو مواقف شِعريّة.
في المسرح، أيضا، نجد مناخات أو مقاطع، أو شخصيات أو حوارات، أو سينوغرافيا، أو مشاهد شِعريّة، فلدى سوفوكل، ويوريبيديس، وشكسبير، وراسين، ولوركا وسترندبرغ وتشيكوف وآرابال، وجورج شحادة، وبيكيت، ويونسكو، وهاندكه، ودوراس، وأحمد شوقي، وسعيد عقل، وفاضل الجعايبي، فبعض هؤلاء أظهروا شِعريّة في المسرح الذي كتبوه أكثر ممّا أظهروا شِعريّة في القصائد التي وضعها بعضهم. مثلا لبيكيت ديوان شعري (ترجمنا بعضه إلى العربية)، ليس فيه القوة الشِعريّة المتمثلة باللغة، وبالحالات والشخصيات التي نجدها مثلا في "نهاية اللعبة"، أو "الشريط الأخير"، أو "آه الأيام الجميلة"، وعلينا أن نبحث عن شِعريّة أرابال مثلا في مسرحياته لا في قصائده، وحتى شكسبير، شعره العظيم في مسرحه وليس في "سوناتاته".
اعتبر أرسطو "أن الرسم، النحت، الموسيقى، الرقص، هي أشكال شعريّة". واعتبر كثيرون، أن الشعريّة (المادة غير المشكّلة للشِّعِر، أو للقصيدة)، يمكن أن تكون مبثوثة في كل الفنون والتعابير والأجناس الأدبيّة وغير الأدبيّة حتى بعض النصوص النثريّة الجافة ذات اللغة المختلفة والعلميّة. ويمكن أن نجد الشِّعر والشعريّة في المسرح لا تقتصر على الكتابة، وإنما أيضا على مجمل العناصر الأخرى: الإخراجيّة، السينوغرافيّة، والمشهديّة. الإضاءة يمكن أن تكون شعِريّة. الديكور يمكن أن يكون "شعريّا". الأزياء، والحركة السينوغرافيّة ككل، والحركة الكوريغرافية.
فعلى سبيل المثل لا الحصر، في مسرحية "ألف حكاية وحكاية" للطيب الصديقي مناخات شعريّة تتصل بذلك المزيج المتعدّد الجماليات في الأداء - الفضاء المسرحي - الغناء - الازياء - التي تكون ديناميّة مشهديّة تدرك الشعريّة الخالصة. وهناك عشرات الأمثلة المتّصلة بشعريّة العناصر المسرحيّة البصريّة، والسمعيّة والأدائيّة، ليس المجال هنا لتناولها أو لتعدادها.
وإذا أردنا مقاربة هذا الفعل الشِّعري الذي يحوّل المادة "الشعريّة" إلى قصيدة يبدو القصد هنا مرتبطا بالمدى الذي نصوغ فيه نتاجا- قصيدة ذات وحدة داخليّة، ولغويّة. وكما تقول سوزان برنار "إنّ الشروط الضروريّة كي تصل القصيدة (النثريّة) إلى جمالها الذاتي، أي في أن تكون فعلا قصيدة، وليس قطعة نثر: الإيجاز، التوهّج، المجّانيّة في كل عضوي، مستقل، وهذا ما يتيح لها التميّز عن النثر الشِّعري. هذه الوحدة العضويّة "مهما كانت القصيدة معقّدة، وحرّة ينبغي أن تؤلّف كلّا - عالما مغلقاّ" (برنار)، اما المجانيّة كما تفهمها سوزان برنار فهي عملية الصَّهر التي تتم من أجل غايات شعريّة، أي أن لا تكون للقصيدة أهداف خارج ذاتها، وألّا تخدم عناصرها سوى ذاتها، سوى القصيدة.
الشعر والرواية
فإذا استعملت عناصر سرديّة (تذكر بالرواية مثلا) فلِصَهرها داخل بنية القصيدة أي لإعدامها كعناصر سرديّة تنتمي إلى فنّ آخر، أو تعبير آخر، وتصير عنصرا من عناصر القصيدة تخدم القصيدة ولا تخدم الرواية. لهذا عندما قلنا إنّ عند كثيرين من الروائيين عناصر شعريّة، فإن هذه العناصر الموجودة لا تخدم القصيدة، بل تخدم الرواية، فهي جزء منها. وعندما نقول إن عند بيكيت أو يونسكو أو أرابال، أو يوسف إدريس "لغة" أو مناخات شعريّة، فإنها لا تخدم القصيدة، بل تخدم بنيته المسرحيّة. فهي جزء من المسرحيّة. هي عناصر شعريّة تحوّلت إلى لغة مسرحيّة. وفي المقابل عندما نقرأ في قصائد لخليل حاوي أو لبدر شاكر السيّاب، أو لسعيد عقل، أو لأمل دنقل، حوارات ما، فإن هذه الحوارات عادة لا تنتمي إلى المسرح، وإنّما صارت جزءا من القصيدة. تحوّلت من طبيعتها "المسرحيّة" الأولى إلى لغة شعريّة مصهورة داخل القصيدة. والفعل الشِّعري المقصود، الذي يحوّل تلك المواد والعناصر إلى قصيدة، إنّما يلغي الثنائيّة المفترضة بين تداخل الأنواع والفنون والطبيعة والأشياء. وبقدر ما يبرز الشاعر قوّة في إعدام هذه الثنائيّة، تكتسب القصيدة "بنيتها" الخاصة المغلقة. وبقدر ما يبرز المسرحي قوّة في إعدام هذه الثنائية تكتسب المسرحية "بنيتها" الخاصة (كنوع خاص).
من هنا يمكن الكلام على تأثيرات متبادلة بين القصيدة والفنون الأخرى. ومن هنا يمكن الكلام على الاستفادة المتواترة، بين القصيدة والفنون الأخرى، أنّها تأخذ من بعضها، وتتناسل أحيانا كثيرة من بعضها، لكن على أنها "قصائد" تحتفظ بسماتها، وطريقة خطابها، ولغة بثّها. فالشِّعر أراد أن يجد استلهامات له في الرسم: الشاعر الإنكليزي كيتس استعار بعض التفاصيل من لوحة لكلود لوران. قصيدة مالرمه استوحاها من لوحة لبوشيه إلخ.
سينية البحتري مشهورة في وصف الآثار الفارسية. وأحمد شوقي عارض البحتري في هذا المجال. وحاول الشعراء كذلك إنتاج تأثيرات خاصة بالفنّ التشكيلي. حاول الشِّعر أن يكون رسميّا (من الرسم)، وحاول كذلك أن يكون نحتيّا. وعبارة "النحت" المنسوبة إلى نصوص كثيرة منها لغوتييه، وهيريديا، وسعيد عقل، وأمين نخلة، دليل على هذا التداخل. وهؤلاء الشعراء الذين ذكرنا وسواهم حاولوا أن ينتجوا، بقصائدهم، "انطباعا" شبيها بالنحت، فقيل عن قصائد بعضهم "إنها منحوتة" (تماما كما يقال عن بعض المنحوتات إنها قصائد). المهم أيضا أن هناك شعراء من المراحل التاريخيّة كافة، حاولوا أن يكوّنوا مناخات بصريّة: من شاتوبريان إلى بروست، إلى روسو، إلى ابن الرومي، إلى البحتري، إلى المتنبي:
أتوك يجرّون الحديد كأنّما
سروا بجياد ما لهنّ قوائم
وصولا إلى امرئ القيس، وشعراء معاصرين: أحمد شوقي، علي محمود طه، أمين نخلة، جبران، الشابي، إيليا أبو ماضي، بدوي الجبل، الجواهري، شوقي أبي شقرا، ومحمد الماغوط... الخ. إضافة إلى كل ذلك حاول عدد من الشعراء أن تكون لهم نظريات أو آراء في الفنّ التشكيلي أو مارسوا النقد كبودلير وجاك دوبان وأراغون وبلند الحيدري وعلي اللواتي، من دون أن ننسى أن هناك عددا كبيرا من الشّعراء مارسوا الرسم والنحت كهنري ميشو وبول فاليري ويوسف الصائغ وجبران خليل جبران.