سمع السكان الأرمن في ناغورنو كاراباخ أصوات القصف والانفجارات عند الظهيرة في 19 سبتمبر/أيلول2023، فعرف كثير منهم أن موجة جديدة من الألم توشك أن تحلّ بهم بعدما عانوا كثيراً خلال صراع عاد إلى الاشتعال بعدما ظلّ "مجمّداً" عقوداً من الزمن. بعد أقل من أسبوع، هجر جميعهم تقريباً منازلهم ليواجهوا مستقبلاً غامضاً في أرمينيا.
خلفيات الصراع
في وقت كان الاتحاد السوفياتي ينظّم نفسه في جمهوريات مختلفة في أوائل عشرينات القرن العشرين، قرّر قادته أن تضمّ جمهورية أذربيجان داخل حدودها إقليماً يسمى إقليم ناغورنو كاراباخ المتمتّع بالحكم الذاتي، وكان أكثر من 80 في المئة من سكانه من أصل أرمني. تشكّلت أرمينيا بوصفها جمهورية سوفياتية منفصلة عبر الحدود الداخلية. عاش الأرمن والأذربيجانيون معاً في ناغورنو كاراباخ عقودا عدة من السلام النسبي، حدّ أن بعض الأشخاص تصوّر أن الصراعات التاريخية بين الأرمن والمسلمين، التي كانت قائمة باستمرار في ناغورنو كاراباخ - وتبادلَ فيها كل جانب التغلّب على الآخر في فترات زمنية مختلفة - قد أصبحت جزءاً من التاريخ.
في الحقبة السوفياتية، قُدّمت التماسات مختلفة لتنظيم جمهورية ناغورنو كاراباخ المتمتّعة بالحكم الذاتي في إطار جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية، بالنظر إلى التركيبة العرقية لغالبية سكانها. وكانت القيادة السوفياتية ترفض تلك الطلبات بانتظام، لكن الحركة اكتسبت زخماً في أواخر الثمانينات، وهي الفترة التي اعترى فيها الضعف الاتحاد السوفياتي نفسه. فنظّم السكان المحليون استفتاء وانفصلوا، لكن أذربيجان لم تعترف بهذه الخطوة. تلت ذلك، حرب بين الأرمن والأذربيجانيين استمرت من سنة 1992 إلى سنة 1994، وانتهت بسيطرة الأرمن على الإقليم وسبع مناطق حوله، وهو ما ربط ناغورنو كاراباخ، التي أعلنت نفسها جمهورية مستقلة، بجمهورية أرمينيا، التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي. فأغلقت أذربيجان وتركيا حدودهما مع أرمينيا رداً على ذلك، على أمل عزل الاقتصاد الأرمني وإضعافه.
في سنة 1994، أصبح هذا الصراع واحداً من صراعات عدة "مجمّدة" في مناطق ما بعد الاتحاد السوفياتي، وفشلت الاجتماعات والمفاوضات المنتظمة بين أرمينيا وأذربيجان في التوصّل إلى أي حلّ دائم. لكن الصراع اشتعل من جديد في خريف 2020 عندما اكتسبت أذربيجان شريكاً إستراتيجياً في تركيا، مدعومة بإنفاق عسكري كبير على مدى عقدين من الزمن، أذكته ثروتها النفطية، وشنّت هجوماً عسكرياً كبيراً، واستعادت السيطرة على معظم الإقليم، في ما أصبح يعرف باسم حرب الـ 44 يوماً. فتمركزت قوات حفظ سلام روسية في المنطقة التي ظل يقطنها سكان أرمن، لكن عددهم أصبح نحو 100 ألف نسمة، بعد عودة بعضهم إلى منازلهم في أعقاب حرب 2020. أغلقت أذربيجان منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 الطريق الوحيد الذي يربط ناغورنو كاراباخ بأرمينيا، وحُرم السكان تدريجياً من المواد الأساسية الضرورية مثل الغذاء والدواء. بعد حصار استمر أكثر من تسعة أشهر، شنّت أذربيجان هجوماً في 19 سبتمبر/أيلول 2023 لإجبار السكان المتبقّين على الاستسلام. لم تتدخّل قوات حفظ السلام الروسية، بل سعت فحسب لمساعدة الأرمن في إخلاء منازلهم. بعد يوم واحد من الهجوم الوحشي، وقّعت قيادة أرمن ناغورنو كاراباخ وثيقة وافقت بموجبها على تفكيك وحدات الدفاع الذاتي، واستجابت كل مطالب أذربيجان.