بات الآن، هناك مستويان للحرب وتبادل الرسائل: في غزة بين إسرائيل و"حماس"، وفي الإقليم بين أميركا وإيران. وقد بدأت إيران في الفترة الأخيرة توسيع وتصعيد دائرة تهديداتها واستهدافاتها. الجديد، هو استهداف ناقلات وشاحنات في باب المندب وقرب شواطئ الهند ومحاولة تهريب أسلحة بعضها ثقيل من سوريا إلى الأردن، ومحاولة ضرب أهداف قريبة من حدود مصر.
لا بد من وضع التطورات الأخيرة في سياق الحرب الدموية المستمرة في قطاع غزة منذ أسابيع. المعلومات تفيد بأن إيران كانت على اطلاع بالقرار الذي اتخذته القيادة العسكرية والسياسية لـ"حماس" في شهر رمضان الماضي، للقيام بتحرك مكثف، سياسي وإعلامي وشعبي وعسكري، لوقف مسار التطبيع العربي- الإسرائيلي وإعادة الملف الفلسطيني إلى الواجهة. لكن المعلومات تفيد أيضا بأن المرشد الإيراني علي خامنئي والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله فوجئا بـ"الهجوم المباغت" الذي قامت به "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل إنهما عاتبا قيادة الحركة لأنها لم تنسق مسبقا معهما حول التوقيت ضمن ما يعرف بـ"وحدة الساحات".
بعد "مفاجأة أكتوبر"، حاولت إيران تدارك موقفها بحسابات حذرة ودقيقة بعد قيام أميركا بتقديم الدعم العسكري والدبلوماسي والسياسي لإسرائيل لـ"استعادة الردع"، و"شن حرب وجودية" ضد "حماس" في قطاع غزة. وحشدت واشنطن مدمرات وحاملتي طائرات في البحر المتوسط والخليج، ووجهت تحذيرا إلى طهران: "أي حرب شاملة يشنها حزب الله على إسرائيل، سترد أميركا بقصف إيران".
وعندما وضعت إيران أمام خيارين: "خسارة الوجه أم الأذرع"، اختارت القيام بمجموعة من العمليات العسكرية لـ"حفظ ماء الوجه" في مسارح عربية مختلفة، العراق وسوريا ولبنان، من دون دفع أميركا وإسرائيل للقيام بعمليات "قطع الأذرع". هذا النهج ترجم، بتبادل قصف محسوب بين "حزب الله" وإسرائيل في جنوب لبنان وعشرات الاستهدافات من تنظيمات موالية لإيران، على مواقع أميركا في العراق وسوريا ومحاولة طائرات مسيرة من "الحوثيين" ضرب أهداف إسرائيلية.
مصر والأردن في توازن دقيق بسبب تداعيات حرب غزة والأوضاع الاقتصادية، ويتعرضان لضغوطات إسرائيلية وغربية هائلة، ويقاومان خطر التهجير الذي تلوح به الحكومة اليمينية في تل أبيب
بعد أكثر من شهرين وتفاقم المعاناة الإنسانية في غزة ومقتل أكثر من 20 ألف مدني وبدء ظهور شقوق في الموقف الغربي وداخل إسرائيل وتصاعد الضغوط على إيران من حلفائها وتمسك نتنياهو بـ"أهدافه" رغم بطء تحقيقها، انتقلت إيران إلى المرحلة الجديدة، بتطورين:
الأول، محاولة ميليشياتها استهداف الأمن القومي الأردني عبر قيام مهربين بمحاولة تمرير أسلحة وذخائر من سوريا إلى الأردن، ومحاولة استهداف "الحوثيين" لحدود مصر قرب غزة. مصر والأردن في توازن دقيق بسبب تداعيات حرب غزة والأوضاع الاقتصادية ويتعرضان لضغوطات إسرائيلية وغربية هائلة ويقاومان خطر التهجير الذي تلوح به الحكومة اليمينية في تل أبيب، ولا شك أن "الرسائل الإيرانية" لا يمكن أن يخطئ المرء في قراءة معناها.
الثاني، تكثيف الاستهدافات في باب المندب وتوسيعها لتعطيل ممر أساسي للتجارة في العالم يصل تأثيره إلى ملايين المستهلكين، بل امتد التهديد ليصل إلى شواطئ الهند. إنها "رسالة" ضد التحالف الذي أعلنت أميركا عنه لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وضم نحو 20 دولة، و"رسالة" إلى نيودلهي التي لم تنضم حتى الآن إلى هذا الحلف، والتي كانت قد أطلقت في قمة العشرين بنيودلهي "الممر الاقتصادي" من الهند إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط وإسرائيل.
غزة محشورة بين هدف نتنياهو بـ"القضاء على حماس" وتمسك إيران بعدم خسارة "الورقة الفلسطينية"
بالصورة الأوسع، تريد طهران تعطيل جهود أميركا لإقامة ترتيبات أمنية في الإقليم وخفض السقف الذي حدده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"القضاء على حماس"، و"تفكيك بنيتها" في قطاع غزة. لماذا؟ لأن تحقيق هذا الهدف يعني خسارة استراتيجية كبرى لإيران ومشروعها، إذ تفقد بموجبه المكون السنّي في "محور الممانعة" الذي ينتمي إلى المكون الآخر، وتخسر الإطلالة الأساسية على ملف الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
عليه، فإن غزة محشورة بين هدف نتنياهو بـ"القضاء على حماس" وتمسك إيران بعدم خسارة "الورقة الفلسطينية"، والإقليم بين فكي جهود أميركا، المقبلة على انتخابات مفصلية، لبناء هيكلية أمنية، واستعراض طهران لأوراقها الإقليمية.