المسافة صفر

المسافة صفر

المسافة مفهوم هندسي يقاس ببعد نقطة عن أخرى. عندما تنطبق النقطتان تلغى المسافة وتنعدم. إلا أن هناك مسافات لا يمكن أن تترجم إلى مقادير، وتقاس بأطوال، وهي مسافات تزداد الصلة بين طرفيها شدة وتتقوى العلاقة بينهما، كلما صغر البعد وتقلّص. عندما تتطابق النقطتان هنا فإن المسافة تكبر وتتسع، فيميل اللامتناهي في الصغر نحو اللامتناهي في الكبر، كما يقول أصحاب التحليل الرياضي. لعل هذا هو المعنى الذي يقصده اليوم من ينعتون المقاومين الفلسطينيين بأنهم جنود "المسافة صفر"، الذين يلتحمون مع أهدافهم، وينصهرون معها من شدة إيمانهم بما يفعلون.

في مقال، ما زال ينضح راهنية، كان الفيلسوف جيل دولوز كتبه سنة 1988، بعد اندلاع الانتفاضة الأولى سنة 1987، تحت عنوان "الأحجار"، ونشر، أوّلا، باللغة العربية ضمن العدد 29 من مجلة الكرمل تحت عنوان: "حيثما يستطيعون رؤيتها"، أوضح الفيلسوف الفرنسي، بأن "المسافة صفر" هي التي تبعد الفلسطينيين جميعهم عن أرضهم أنّى كانوا. يقول: "مطرودين من أرضهم، يقيم الفلسطينيون حيثما يستطيعون مواصلة رؤيتها على الأقل، والاحتفاظ بالقدرة على إبصارها في الأحلام. أبدا لن يقدر الإسرائيليون أن يدفعوهم أبعد، أو يقذفوا بهم إلى غياهب الليل، إلى النسيان".

الصفر هنا ليس مجرد عدد يقيس مسافة هندسية. إنه حالة نفسية، وموقف أخلاقي، وواقع وجودي. وهو حالة شعورية ولاشعورية، حالة حلم وحالة يقظة. إنه علاقة بالأرض، والتحام بـ"أحجارها". من هنا رمزية "الأحجار" أداةً للمقاومة، ومن هنا العنوان الأصلي لمقال الفيلسوف الفرنسي: "إن الأحجار المقذوفة لهي آتية من الداخل، آتية من الشعب الفلسطيني للتأكيد بأنه في مكان من العالم، مهما كان صغره، قد انقلب الدّيْن. فما يقذفه الفلسطينيون هو أحجارهم، التي تشكّل جزءا من ذواتهم، الأحجار الحيّة لبلادهم".

لا غرابة ألا يجد جندي الاحتلال الحمى إلا باتخاذ مسافات بينه وبين هذه الأرض، فيحتمي داخل آلاته ومدرعاته وبيوته الحديدية

لعلّ هذا الانصهار بين الإنسان والأرض، بين البشر والحجر، هو الذي تعنيه عبارة "المسافة صفر". نتفهم أن يؤول تدمير الشعب الفلسطيني، أولا وقبل كل شيء، إلى إحداث شروخ بين البشر والحجر، وتدمير كل ما يدل على عمارة وعمران. لذا يصرّ الإسرائيليون على معاقبة الشخص و"معاقبة" ممتلكاته، قتل الشخص و"قتل" بيته، تدمير البشر، وتدمير الحجر. إن تدمير بيوت الفلسطينيين ليست مجرد عملية انتقامية، وغنما، هي محاولة اجتثاث واستئصال لكل ما ينبض حياة. نقرأ في مقال "الأحجار" لدولوز: "تدمير القرى، نسف المنازل، طرد السكان، واغتيال الأشخاص: تاريخ مرعب ما يفتأ يعاد على حساب أبرياء جدد. يقال إن الاستخبارات الإسرائيلية تستحوذ على إعجاب العالم كله، ولكن، ما هي هذه الديمقراطية التي تمتزج سياستها بأكثر مما يلزم معه نشاط استخباراتها... كيف ستخرج إسرائيل من هذا، ومن الأراضي المضمومة، والأراضي المحتلة، ومن مستوطنيها ومستوطناتها، ومن حاخاماتها الموتورين؟ احتلال، احتلال، احتلال إلى ما لا نهاية."

لا عجب إذن أن يتحصن الفلسطيني بـ"رحم أرضه" ويتلحف بها دفاعا عنها، وهذا بعد أن قاوم بحجارتها. إن الاحتماء بأعماق الأرض هو نوع من الحنين إلى رحم الأمومة، و"التحام" البشر بالحجر، وإلغاء للمسافة بين الإنسان وأرضه. لا غرابة ألا يجد جندي الاحتلال الحمى إلا باتخاذ مسافات بينه وبين هذه الأرض، فيحتمي داخل آلاته ومدرعاته، وبيوته الحديدية، ولا يجرؤ، إلا اضطرارا، على النزول إلى الأرض، وتقليص المسافة بينه وبينها. والحقيقة أنه لا يصبح جنديا "حقيقيا" ولا يشعر أنه كذلك، إلا عندما يوسع الشرخ بينه وبين "الحياة" على الأرض، فيصعد "بعيدا" ليرمي بقذائفه من أعالي السماء حيث لا يحس أنّه يخوض غمار معارك، ويشنّ حربا فعلية تقتل بشرا وتهدّم مساكن، وتشتّت أسرا، وتحرق أبرياء، وحيث يكون عليه أن يتعامل مع شاشة ترسم له مسافات "بريئة" تقاس، لا بقوة الارتباط بالأرض، ولا بشدة الإيمان بالقضية، وإنما بأبعاد تترجمها دوال وأعداد وأشكال.

نتفهم إذن ألا يقوى هذا الجندي "البعيد" على النزول إلى حيث يطلب منه أن يقترب من مسافة "صفر"، ليبين عن حنكة وإقدام، لأن تلك المسافة ستظل دوما بعيدة عنه بعدا لا نهائيا، إذ لا تستطيع أيّ رياضيات أو فيزياء أن تقيسها وترسمها له على شاشته في الأعالي، فهي ليست من المسافات التي تقاس بالبعد بين نقطتين، وإنما هي من تلك التي لا تقاس إلا بالإيمان القويّ بالقضية، والتعلق الشديد بالأرض، والالتحام بـ"أحجارها".

font change