كتاب الصحافي ومقدّم البرامج التلفزيونية حسين جرادي الصادر حديثا عن "دار النهار اللبنانية" في عنوان "تذكروا هذا اليوم إلى الأبد - ترامب من الرئاسة إلى التمرد"، يضع القارئ أمام إشكالية التعاطي مع حدث الانقسام الأميركي الحاد، الذي انفجر على خلفية الانتخابات الرئاسية الماضية، والصراع بين الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الطامح إلى تجديد ولايته والمرشح الديموقراطي جو بايدن.
أشبع الموضوع قراءة وتحليلا وعرضا، فما الذي يمكن أن يضيفه كتاب، وكيف يمكنه منافسة أو إزاحة ذلك الكم الهائل من المعلومات والمشاهد التي انطبعت في ذاكرة الناس حول هذا الحدث الضخم والاستثنائي وغير المسبوق؟
جرادي الذي عاش وخبر الحدث الأميركي لفترة طويلة من خلال عمله في قناة "الحرة" يعد قراء كتابه بمادة لا يمكن مضاهاتها، لأنها لا ترصد الحدث وحسب بكل تفاصيله وتشعباته بل تعود إلى الأصول التاريخية والسيكولوجية وحتى الشخصية لأبطاله، التي جعلت من كل حدث فعلا كامنا ينتظر اللحظة المناسبة لينفجر بالشكل الذي خرج به إلى النور تماما بحيث لا يمكن أن يتشكل بأية طريقة أخرى. ينسب الوقائع إلى أسبابها وأصولها، فيظهر المفاجئ، والمذهل، والصادم بعد الملاحقة الدقيقة والمتأنية والشاقة، كأنه سياق متصل أقرب إلى الحتمي والمحكم. يروي كل ذلك بطريقة تجمع بين السرد الروائي والصحافة الاستقصائية والعرض الإخباري فينجو الكتاب من التصحّر والجفاف، ويظهر الحدث الأميركي بخصوصيته الداخلية وأبعاده العالمية متدفقا يتجاوز لحظته ويسمح بملاحقة أثره الممتد الذي يصنع مستقبل أميركا والعالم.
بين التوثيق والرواية
"السجين رقم po1135809 اسمه دونالد ترامب. مساء الخميس 24 أغسطس/آب 2023 دخل الرئيس الأميركي السابق سجن مقاطعة فولتون في ولاية جورجيا. صرح عن طوله ووزنه، أخذت بصمات أصابعه وعقد حاجبيه محدّقا في الكاميرا لزوم الصورة الجنائية الأولى من نوعها لشخص تولى الرئاسة. احتجز لعشرين دقيقة متهما بالابتزاز الانتخابي والتآمر للتلاعب بالانتخابات الرئاسية عام 2020 ثم أطلق سراحه بكفالة قيمتها 200 ألف دولار".
يظهر الحدث الأميركي بخصوصيته الداخلية وأبعاده العالمية متدفقا يتجاوز لحظته ويسمح بملاحقة أثره الممتد
يفتتح الكتاب بهذا المشهد الذي يجمع بين السرد الروائي والبنية البصرية والتوثيق المغرق في الدقة. الواقع الذي يرصده لم يصبح تاريخا بعد لأنه لا يزال يتفاعل ويؤثر، ويكاد يستعصي على التصديق. لقد شوهد بنهم كبير لكنه لم ينته ولم يمت. يلعب أسلوب العرض المتواصل للمعلومات وترتيبها في إطار روائي على استحضاره بصريا ودلاليا يدخل القارئ في قلبه ويسمح له بمعاينته في بعده الأقصى من داخله، حيث لا يمكن لأي طريقة أخرى تقديمه بالقدر نفسه من الوضوح والشمولية.
يمتدّ منطق العرض السالف الذكر على كامل الكتاب، محوّلا الوقائع الغزيرة إلى معالم ملموسة ترسم مسار التحولات الكبرى التي لحقت بأميركا انطلاقا مما أثارته معركة 2020 الرئاسية من صراعات دفينة، استعادت كل ما كانت أميركا تعتقد أنه قد دفن إلى الأبد، ولكن ذلك بدا وهما.فانفجرت مباشرة كتلة عريضة من النزعات والمعتقدات والتقسيمات العرقية والعنصرية والولاءات المتباينة وأفكار تفوق العرق الأبيض وكراهية المهاجرين والجماعات التطهيرية الميالة إلى العنف وظواهر تقديس الأشخاص والغيبيات والخرافات والتلاعب بالقوانين وتجاوزها. وصلت الأمور الى حدود الحرب الأهلية وإحياء هاجس استخدام السلاح النووي لتحقيق مكسب سياسي.
يتضمّن الكتاب خطبا كاملة منشورة حرفيا وكذلك مرافعات جنائية ومنشورات على التواصل الاجتماعي وتصريحات ومقابلات مأخوذة من مصادرها أو قام بها الكاتب بنفسه، مما يجعلها ملتزمة المنهج التوثيقي المباشر، لكن اجتماعها مع النسق التشويقي والإيحائي يفتح حدود التوثيق ويدخله في علاقات مع السينما والرواية والأدب من دون التضحية بالطابع الصارم لملاحقة الأحداث وتدوين الوقائع.
الديموقراطية المتشظية: اقتحام الكابيتول
بعدما بدأت نتائج الانتخابات تظهر وتكشف عن خسارة الرئيس السابق للمعركة كانت فكرة سرقة الفوز تسيطر عليه وعلى فريقه بشكل كامل. قائد فريق المحامين والحاكم السابق لولاية نيويورك رودي جولياني كان، وفق ما ورد في كتاب "أنا وحدي من يمكنه إصلاح الأمر" للصحافيين في "واشنطن بوست" كارول ليونغ وفيليب راكر، يصر على ضرورة إعلان الفوز، وقد استجاب ترامب وفريقه لهذا المنطق وساد في الأيام التي سبقت إعلان فوز بايدن رسميا التضارب بين الجمهوريين الذين يعلنون الانتصار والديموقراطيين الذين يستعدون للاحتفال.
ومع إعلان فوز بايدن في يوم السابع من نوفمبر/تشرين الثاني بدأت الأمور تتخذ طابعا أكثر حدة، لأنه لم يسبق أن كانت الانتخابات مشخصنة بهذا القدر ولا تنبني على المشاريع السياسية والبرامج بقدر ما تقوم على الكراهية المتبادلة بين المرشحين، التي تسم جماهيرهما. لم يكن الحدث هو الفوز بمنصب الرئاسة بقدر ما كان خسارة ترامب بالنسبة إلى الديموقراطيين، كما أن الأمر من الزاوية الأخرى لم يكن رفض الهزيمة بالمطلق بقدر ما كان عدم القدرة على احتمالها ضد بايدن الذي يكنّ له ترامب وجمهوره احتقارا كبيرا.
سعار التسلح والدعوات الى رفض النتائج، أنتجا مشهد اقتحام الكابيتول الذي يعد الحدث الأبرز في التاريخ الأميركي الحديث، وقد جرى بتحريض مباشر ودفع من ترامب. وضع هذا الهجوم الديموقراطية الأميركية ومفهوم قوة المؤسسات التشريعية والقانونية والانتظام العام للبلاد في مرمى الخطر الجدّي، خصوصا أن المشاركين فيه والداعين إليه كانوا من داخل هذه التجربة ويعتبرون أنفسهم من مؤسسيها.
بدا الأمر أشبه بانقلاب على المعادلات الثابتة التي قامت عليها أميركا وليس مجرد صراع سياسي وانتخابي. قبل أيام قليلة من الحدث كان ترامب يغرد بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول داعيا إلى تظاهرة كبرى في واشنطن في 6 يناير/كانون الثاني، أتبعها بتغريدة أخرى قال فيها على طريقته "كونوا هناك، ستكون جامحة"، وقد أكدت دراسات وتقارير نشرتها الصحافة الأميركية في ذلك الوقت ولم تحظ بالكثير من الانتباه وجود مخططات لإقامة معسكر مسلح في متنزه "الناشيونال مول" القريب من البيت الأبيض إضافة الى تهديدات باستخدام العنف والعمل على تهريب الأسلحة الى المنطقة.
تحت تأثير هذا التحريض انفجر مشهد غير متوقع شاهده العالم بأسره. الشرطة تخلي المباني من الموظفين والمشرعين وتعمل على نقلهم إلى أماكن أكثر أمنا، حشود غاضبة تحمل هراوات وتشتبك مع الشرطة التي بدت غير قادرة على ضبط الأمور لأنها لم تكن متوقعة، زجاج يتحطم واقتحام للمكان.
ما خلفه الحدث كان عميقا وخطيرا. المجموعات التي ظهرت على السطح بدت كأنها مصانع لإنتاج التطرف والعنف، ونظريات المؤامرة، والإيمان بالتفوق العرقي، كراهية النساء والعداء للمهاجرين. برزت جماعة "كيو أنون" التي تؤمن بنظرية المؤامرة، وجماعة "براود بويز" التي يدين أفرادها بالولاء لترامب وشخصه، ومجموعة "أوت كيبرز" حراس القسم، وهم جماعة راديكالية تتبنى منطق القتال وقد وصفها "المركز القانوني للفقر الجنوبي"، وهو مركز غير حكومي يرصد سلوكات اليمين المتطرف بأنها "واحدة من أكبر الحركات الراديكالية المناهضة للحكومة في الولايات المتحدة".
لقد خرج الكامن والبدائي والصراعي إلى الواجهة كاشفا عن أميركا لم يكن أحد يتصوّر أنها موجودة أو ممكنة. تجلت هشاشة التوصيف الذي يستعمل عادة للتفريق بين ما هو أميركي بانتسابه إلى عالم النظام والديموقراطية وسطوة القانون في مقابل غير الأميركي الذي يحيل على الفوضى والتخلف والتمرد والخروج على السلطات.
من يعلنون أمام الشاشات وعلى مرأى من العالم بأسره عن عدم أميركيتهم وفقا لهذا التوصيف الشائع والتقليدي كانوا 73 مليون أميركي خاضوا الانتخابات مع ترامب تحت الشعار المسروق من الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان الذي يقول "فلنجعل أميركا عظيمة مجددا".
لقد خرج الكامن والبدائي والصراعي إلى الواجهة كاشفا عن أميركا لم يكن أحد يتصوّر أنها موجودة أو ممكنة
انقسام ثقافي وحرب أهلية
استشرفت الصحافة الأميركية حدة الانقسام قبل مفصل انتخابات 2020. نشرت "واشنطن بوست" في 2 مارس/آذار 2019 تقريرا حمل عنوان "في أميركا، الحديث يتحول إلى شيء لم يتم الحديث عنه منذ 150 عاما: الحرب الأهلية". يؤكد التقرير أن المحللين السياسيين من الجانبين يجمعون على أن البلاد على شفير حرب أهلية.
جوزيف ديجينوفا المعلق في "فوكس نيوز" والمؤيد لترامب يقول في التقرير: "نحن في حرب أهلية. إن الإيحاء بأنه سيكون ثمة خطاب مدني في هذا البلد في المستقبل المنظور قد انتهى... ستكون حربا شاملة".
صحيفة "وول ستريت جورنال" نشرت في 19 سبتمبر/أيلول من العام نفسه تحقيقا مدعما بإحصاءات أجراها معهد "بروكنغز" يرصد التغييرات التي حصلت بين عامي 2008 و2018. التحقيق حمل عنوان "الديموقراطيون والجمهوريون ليسوا فقط منقسمين: إنهم يعيشون في عالمين مختلفين"، التباين الواضح بين التيارين، "حزبان رئيسيان يمثلان اقتصادين مختلفين وبالكاد يتقاطعان. يمكن العثور على الديموقراطيين في المدن والضواحي المتعلمة حيث الوظائف المهنية متوافرة. الجمهوريون يعيشون في المناطق الريفية حيث الطبقة العاملة ومواطن الزراعة والتصنيع المنخفض المهارات".
في كتابه الصادر عام 2020 بعنوان "كان علينا أن نتوقع ذلك"، يشرح كاتب العمود الأسبوعي في "وول ستريت جورنال" جيرالد ف. سيب طبيعة التناقض بين جماهير الديموقراطيين والجمهوريين معتبرا أنها لا تعود إلى أسباب اقتصادية وسياسية بل ثقافية، "الملايين من الطبقة الوسطى والعمال تحولوا نحو الحزب الجمهوري مع الوقت ليس لأسباب اقتصادية بل ثقافية، كثيرون لم يستطيعوا ببساطة التزام مواقف الديموقراطيين من قضايا متنوعة مثل الإجهاض، حقوق المثليين، الصلاة في المدارس، والسيطرة على السلاح، الرؤية الاقتصادية للحزب كانت ثانوية بالنسبة إلى هؤلاء الناخبين".
وقد أجرى الكاتب سلسلة من المقابلات الخاصة لصالح الكتاب ساهمت في رسم خريطة واضحة للمشهد المتأزم. كليفورد ماي، ناشط جمهوري ومؤسس "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات"، لا يعتبر أن ترامب خلق تيارا مغايرا لتوجهات التيار المحافظ عموما بل يرى أنه "في الواقع على الرغم من أن شخصيته كانت إشكالية إلا أن سياسته بالكاد كانت خارج التيار الرئيسي للتيار المحافظ".
أماالدكتور إدوارد جوزيف، الأكاديمي المعروف في "جامعة جون هوبكنز"، فيقول في رد على سؤال حول ما إذا كان هجوم السادس من يناير/كانون الثاني أظهر أميركا أخرى: "نعم، لقد جلب أميركا أخرى كانت موجودة بالفعل تحت قيادة الرئيس السابق ترامب وتحريضه. كانت هذه أميركا التي اعتقدت أن مفهومها للأمة يتعرض للهجوم من قوى ليبيرالية ودخيلة. بعبارة أخرى رأى المتمردون وأنصارهم أنفسهم على أنهم وطنيون يدافعون عن أميركا".
تستعد أميركا لموقعة انتخابية رئاسية في العام 2024 ويستبعد أن يقرر الحزبان الديموقراطي والجمهوري اختيار شخصيتين غير اللذين خاضا معركة 2020، في وقت تشير فيه استطلاعات رأي غير رسمية إلى أن قسما كبيرا من الأميركيين يعتقدون أنها ستنطوي على أعمال عنف. الظروف والإشكالات والتحولات الغزيرة والكبرى التي رصدها حسين جرادي في كتابه تسمح بقراءة المشهد المقبل بوصفه تصعيدا مكثفا لكل ما كشفته انتخابات 2020 وما نما حولها ومن خلالها وبعدها من خلافات جوهرية في بلد يوصف بأنه مفجّر أزمات العالم ومنتج تسوياته في الآن نفسه.