كانت القصة القصيرة ولا تزال سيدة التّكثيف الجليلة، عدوّة الاستطراد، إذ حبّة خردلٍ زيادة تختلُّ بها إبرة الميزان، فكأنما كمالها أن تستوفي شروط النّقصان. شاعرةُ النّثرِ، ناثرةُ الشّعر. أستاذة الهشاشة القصوى، فاتنة الأشياء الهاربة، المهملة، المنسية، ضمن مطارح المجزوءات، لعلها بإيجاز ملكة الهوامش، عرّابة الحواشي.
القصة القصيرة وهي شقيّة الأنواع الأدبية، لا تزال درسا عصيا في الكتابة السردية، وبملء هامشيتها تشاغب بخطورة كل ما يستأثر بسلطة المركز الذي يستهوي الأجناس الكبرى، ذات النزوع الملحمي، أو المنحى الشمولي.
وإذ لا تزال غوايتها في أبدع أحوالها، فهي اليوم صامدة بكامل ألقها لم تُستنزف معادن جمالها بعد، برغم ضآلتها الماكرة، المخادعة، السرابية بحذاقة، إنّما تستهوي المولعين باللعب من طينة الذين يرون ا"لعالم في حبة رمل، والسماء في زهرة برية، واللامتناهي في راحة اليد، والأبدية في ساعة واحدة" إذا جاز استعارةُ شذرة وليم بليك المشحوذة هذه.
ما يجب الالتفات إليه هو قيمة المنجز القصصي، لأنه محكّ الإضافات والتحولات والإبدالات الحقيقية
لاءمَ إدغار آلن بو، وهو من معلّميها الكبار، بين الغرابة وجنس القصة القصيرة إلى درجة أصبحا متلازمتين بشكل أبدي، وجعل من وحدة أثرها وبلاغة توترها فلسفة رصينة، آخذة في الاستمرار بصور متجدّدة، وأردف إليها تشيخوف ميزة التناغم الهارموني مع الواقع من منظور الالتفات إلى ما هو جمالي وإنساني قابعين في الظل: أن يتحوّل وضع إنساني مُهمّش حدّ النسيان إلى وضع كوني يتألق معناه ضمن الوجدان المشترك. وغمرها كافكا بتخييل حيواناته المريبة، لتتأرجح بين قطبي اللامعقول والاستعارات المخلخلة، وضاعف بورخيس من قلقها وباتت تتماهى مع الأحلام يمنة، والكوابيس يسرة، ثم أضاف إليها خوليو كورتاثار وغارسيا ماركيز وإيتالو كالفينو، ما يليق بها من بهارات سحرية وشعرية، وكانت مغامرتها فيما وراء الحدود مظفرة في لانهائية الخيال العلمي مع راي برادبوري، وج. ج. بالارد.
للقصة القصيرة ممسوسون، مولّهون حدّ التصوّف بأُحَادِيتها اللاشريك لها، ممّن كتبوا فيها ولم يغادروها إلى نوع آخر، مثل صاحب "النمور في اليوم العاشر" زكريا تامر، وصاحب "ديوان السندباد" أحمد بوزفور، وصاحب "كشك الموسيقى" سعيد الكفراوي... عكس الذين يزاوجون بينها وبين الكتابة الروائيّة أو الشعر، ومهما يكن من أمر في هذا الباب، فلا يعني أنّ الملتزم بالكتابة الأبدية في القصة القصيرة أفضل من الذي يكتب فيها أيضا وفي أجناس أخرى بالآن ذاته، إذ ما يجب الالتفات إليه هو قيمة المنجز القصصي، لأنه محكّ الإضافات والتحولات والإبدالات الحقيقية وما من شيء قد يزيد الملتزم بها هيبة وتقديرا أمام من ينوّع عليها بكتابات في حقول أخرى، وهذا شأن ثلّة نوعية من قبيل محمد زفزاف ويحيا الطاهر عبد الله ومحمد خضيّر... والقائمة طويلة تتألق بأسماء أجيال جديدة في مُجمل الخرائط العربية، ذهبت بتجريب القصة القصيرة إلى الحدود القصوى.
الكتابة عن القصة القصيرة أمر محفوف هو الآخر بخطورة، إذ هي النجمة الشاردة منعكسة على صفحة مياه البئر أو الدّلو، طفلة اللعب المأهولة بالسّديم، وكما هي موسومة بالصعوبة إبداعا بالنظر إلى حقيقة التكثيف التي تنهض عليها برهةُ وجودها اللاذعة، فهي أيضا متمنّعة على القبض نظريّا، وما يهمّ في جسارة مُقاربتها وإعمال التأمل فيها هو مُتاخمتها على نحو يعي حدودها المخادعة.
ألا يجدر بالحديث عن القصة القصيرة أن يكون هو الآخر مكثفا على مقاس حجمها، وإلا فسيغدو ثرثرة بلا طائل؟ هذا ما تُهسهس لي به الكلمات الآن وأنا أستطرد في الكتابة عنها... فليكن:
ما من طريقة واحدة تُكتب بها القصة القصيرة، وأمتع وأخطر ما في كتابة القصة القصيرة هو محضُ لعب، واللعب مع القصة القصيرة أو فيها بالأحرى مشروط بحيّز بالغ الضآلة، الضآلة التي تعادل الأناقة في آخر المطاف.
يغدو كاتب القصة القصيرة ساحرا بالفعل أمام الأشياء المتقشفة التي عليه تدبيرها بأدوات جدّ محدودة، داخل مساحة لا تستقيم إلا بالتقويض، ومع ذلك فهو مُطالب ضمن شرْطٍ زمنيّ مارق، أن يقبض على الأبديّة التي تسكنُ خلف البرق.
تغدو القصة القصيرة وفق هذا الزعم التجريبي ما بعدية، مآلية، نصا سرديا عائما، بلا هوية خالصة
لا قصة قصيرة بدون حكاية، وكتابة الحكاية لكي تصير قصة قصيرة يلزمها وعي جماليّ حادّ، فلسفة تدبير سرديّ حكيم، خبرة اشتغال تقويضي رصين، طريقة إنجاز جارحة تعي الفرق الجذري بينهما، فصحيح أنّ الحكاية ضرورة قصوى للقصة القصيرة، ولكن هذه لا يمكن أن تكون كذلك إن لم تحتو الأولى لصالح لعبتها الخاصّة، وإلا فهي شيء آخر غير ذلك.
ومع ذلك يمكن التمرّد على الحكاية وإلغاؤها من الوجود القصصي، ولكن تغدو القصة القصيرة وفق هذا الزعم التجريبي ما بعدية، مآلية، نصا سرديا عائما، بلا هوية خالصة، محض نص دامغ المسوخ، يسعى للإنتماء إلى مستقبلية غامضة، مجهولة بالمُطلق، ومن جرّبوا بإفراط هذا النزوع الحاد الذي يروم تحويلا أساسيا يطال ماهية تجنيسها، سرعان ما اكتشفوا الفرق الهائل بين المتعة الخالصة التي تتحقق مع كتابة قصة قصيرة جيّدة، وبين العمل الذهني البارد الذي يقف وراء نص هو محض ميتا-قصة، أو ما بعدها.
وبين هذا وذاك، تجد القاصّ مُجرّبا بحكمة كان أو نزقا محلّقا بجنون، يهلوسُ إثر كل بياضٍ:
اللهم اجعل العين بصيرة واليد قصة قصيرة.