أقدّر أن الأفلام الطويلة تحتاج إلى تنويع إيقاعها، وتصاعد أحداثها، ولو على أكثر من خطّ سردي، حتى لا تفقد لحظات التوتر والخوف والقلق والغضب قيمتها. لكننا في "ناقة" أمام عمل يبدأ بمشهد صاخب مكثف، وهذا مفهوم، بل وإيجابي لجذب الانتباه، لكن الفيلم يستمر في خلق، أو إن شئت اختلاق، هذه المشاهد حتى يبلغ نهايته، هذا ما يفسّر إحساس عدم الراحة لدى متابعة الفيلم. والعمل الفني حتى عندما يتناول تجربة موجعة مهما كان سياقها، لابد أن يصنع تجربة تلقٍ ممتعة، أو في الحد الأدنى مريحة. فالعمل الفني ليس إعادة للتجربة الموجعة، بل هو مراجعتها العميقة عاطفيا، والبليغة خيالا، والآمنة للمتلقي، والتي تعيد ترتيب مشاعرك حيال ما يصوره ذلك العمل الفني. هذه المراجعة هي اقتراح الفيلم عليك لقراءة المشهد، وهو اقتراح يحتاج للحظات تأمل، واستنتاج، وابتكار للأسئلة، ولا يمكن تقديم هذا الاقتراح من خلال سرد مكثف متسارع على نحو ما جاء في هذا الفيلم.
هذا عمل غاضب ومتشنّج ومرتبك. أحداثه طارئة ومتلاحقة دون لحظة تأمل، وشخصياته متوترة ومنفعلة دون أسباب واضحة في أحيان كثيرة. وحتى المغامرة التي أنتجت ما أنتجت، تبدأ منذ لحظتها الأولى باعتبارها خيارا كريها للبطلة، وكأنها مجبرة عليه. ذلك أن سارة (تؤدّي دورها أضواء بدر) لا تنشد من رحلتها مع سعد (يزيد المجيول) متعة، ولا تجد فيها جاذبية، لا في ما يعترضهما في مطلع الرحلة، ولا في ما تختبره خلالها. يخفق العمل في إعطاء المشاهد سببا مقنعا لقبولها الرحلة، ولاستمرارها فيها. لا تعبير عن الحب، ولا لمحة عن التشوق للمغامرة، ولا اهتمام بالمستهدف. فلا هي معنية بالمخيم، ولا ما يجري فيه. كأنما تعاقب نفسها بهذه المغامرة، وبتفاصيلها المشحونة بأحداث ثقيلة وكلمات بغيضة.
تجربة تعكس تصورا ساذجا للعمل الفني باعتباره صورة وسردا، لا باعتباره معنى إبداعيا، وغوصا في عمق شعوري، تُوظف المهارات الفنية لإنجازه بدلا من توظيفه لاستعراضها. ومما زاد طين الفيلم بللا طريقة المخرج في تصوير المشاهد، حيث المبالغة في حركة الكاميرا، والتوسّع في استخدام المؤثرات البصرية، وهو ملمح يبرز قدرات المخرج إنما على حساب عمله، إذ لم ينجح في توظيف هذه المهارة لتفعيل عنصر فني داعم للعمل، بل صار عنصرا عكسيا، أضاف المزيد من إعاقة البعد الإبداعي، ومن تشويش المعنى الفني.
بقية العناصر الفنية في العمل تشبه نظيراتها في أغلب الأفلام المحلية، والأعمال الدرامية. فشلٌ في استخدام الحوار بوصفه عنصرا فنيا، وتحوله إلى إجراء وظيفي، يشارك فيه الممثلُ المؤلفَ لإبلاغك بالغرض من المشهد، في ممارسة سطحية لا تسمح باستخدام جمالي، ولا بإبداع حوار عميق المعنى، او جملة متعددة الدلالة. وسيناريو يسعى لجمع ما يظنه تعبيرا عن المكان، متوهّما أنه بذلك اكتسب المحلية. وقصة متورّطة في المبالغات ومسرفة في اقتراح المصادفة حلا، واجتهاد تمثيلي في حدود ما تيسر من إمكانيات للراغبين والراغبات في الظهور على الشاشة. كل ذلك ضمن بناء درامي متعدّد الفجوات، وحبكةٍ يعتمد نجاحها على تسامح المتلقي.
أسئلة التلقي
تكتسب العناية بمسألة التلقي، من حيث سياقها وطبيعتها، أهمية عالية في صناعة السينما، لأنها تؤثر بشكل مباشر في الإنتاج المستقبلي، ضمن عوامل أخرى. وهو أمر يزداد ثقل وزنه مع تنامي استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وارتفاع التأثير الاقتصادي المباشر للمشاهد، لا المعلن. فالمشاهد هو المشترك في المنصة، وهو أيضا مشتري التذكرة. لذا فإن أحد التحديات الرئيسة لصنّاع الأفلام يتمثل في الموازنة بين خياراتهم الفنية واستجابتهم لرغبات القطاع الأكبر من المستهلكين إن صح التعبير.
أثار العمل المعروض على منصة مثيرة للجدل، جدلا صاخبا في شبكات التواصل الاجتماعي، وردود فعل اتسم أغلبها بالانفعال، في هجوم قاس، ودفاع حماسي. بما عكس بوضوح مدى الحاجة الملحة لحركة نقدية واعية، ومتنوعة، ومستوعبة، ومستقلة عن المبدعين، في موازاة موجة صاعدة من الإنتاج السينمائي المحلي، لتكون وسيلة أساسية لترشيد ذلك الإنتاج، وردود الفعل تجاهه، بما يسهم في تنمية حركة فنية تكتشف طريقها.
ومع إيماني بحق المعجبين، والرافضين، للعمل بإعلان مواقفهم، دون إساءة، إلا أن ردود الفعل تضمن بعضها حججا جديرة بالتأمل، وأخص هنا الآراء التي ناقشت الفيلم خارج الاعتبار الفني، فمن المدافعين عن العمل من احتج بأن السينما فن وليد في بلادنا، وأن مخرج الفيلم في مقتبل عمره، بالمعنيين الشخصي والفني، وأن التجربة جريئة ومثيرة للجدل، وأخيرا أنها تدافع عن حرية المرأة. مع ملاحظة أن قطاعا من المدافعين حرص على تأكيد أنهم من زملاء المخرج.