في نهاية لقاء تلفزيوني أجري عام 1997، همس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أذن الحاخام إسحق قدوري، الزعيم الروحي للطائفة السفارديمية الأرثوذكسية المتطرفة: "اليسار نسي ماذا يعني أن يكون يهودياً". هناك همسات أخرى من نفس النوع، لكنها أعلى صوتاً، دحرتْ كلّ صوت معتدل في الحياة السياسية الإسرائيلية، ففي شهر أبريل/ نيسان 1984، كما جاء في كتاب "يوم الله: الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث" 1991، للمفكر والمستعرب الفرنسي، غيل كيبل، أوقفت الشرطة الإسرائيلية أعضاء مجموعة إرهابية يهودية يُشتبه بأنها اغتالتْ عدداً من طلاب جامعة الخليل، وقد جرى تفكيك الشبكة في اللحظة التي كان فيها بعض أعضائها يستعدون لتفجير حافلات عربية تغص بالركاب.
هز اكتشاف هذا التنظيم السري اليهودي، جانباً واسعاً من الرأي العام الإسرائيلي، خاصة بعد معرفة أن كثيرين منهم ينتمون إلى منظمة "غوش إيمونيم"، أو "كتلة الإيمان"، وهي حركة سياسية دينية وُلدت بعد حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول، التي انتهتْ بهزيمة نفسية للدولة العبرية. ويبدو أن هذه الحركة، أو على الأقلّ الأسس التي قامت عليها، ولدت من جديد بعد السابع من أكتوبر 2023.
بعد حرب 1967، تحولت إسرائيل، كما لاحظ إدوارد سعيد في حوار تلفزيوني أجراه معه ريتشارد كيني في دبلن، عام 1992، نشرت ترجمته مع حوارات أخرى لسعيد، دار الآداب، 2008، من دولة مُضطهَدَة إلى دولة مُضطهِدَة، وفي غضون جيل واحد تحول الإسرائيليون من مستضعفين إلى أسياد. ربما لو كان إدوارد سعيد معنا الآن، لأضاف إلى ملاحظته الذكية، إضافة أكثر تعقيداً يفرضها تراكم التاريخ، وهي أن إسرائيل باتت تمارس دور المستضعف والسيد بحسب الظرف الزمني المُهدد لعرقها المُخْتَار. وكان الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز ذكر قبيل وفاته في 2018، في حوار مع "دويتشه فيله"، أن حرب الأيام الستة 1967، أطلقت العنان لمزاج قومي مُسمّم، فتزايد الافتتان بأدوات الدولة، والطقوس العسكرية، وبدلاً من أن يهدأ هذا المزاج، أصبح جزءاً من الموقف العام لبلد منخرط في احتلال وحرب دائمين.
معارك "كتلة الإيمان" لا تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية، فهي راديكالية، صفرية، هدفها الوحيد هو إبادة الآخر
وإذا كان نتنياهو قد اعتذر قبل ربع قرن عن ما اعتبر إساءة إلى اليسار الإسرائيلي، فإنه لم يعد مضطراً إلى ذلك اليوم. إذ يقود حكومة يمينية متطرفة يتنافس أعضاؤها في التعبير عن المنحى الديني التوراتي لهذه الحرب، وعلى رأسهم نتنياهو نفسه الذي لم يجد حرجاً في استحضار التوراة في سياق التبرير غير المباشر لهذا القتل الوحشي للمدنيين في غزة.
ولعلّ هذا ما ألمحت إليه إيفا بورغواردت مديرة منظمة IfNotNow، وهي جماعة يهودية تقدمية تقود العديد من المظاهرات في واشنطن، في إطار تعليقها على دعم إدارة جو بايدن لإسرائيل في حملتها العسكرية الكارثية على قطاع غزة، والتي قتل فيها حتى الآن ما لا يقلّ عن عشرين ألف مدنيّ، فقالت: "البيت الأبيض والعديد من المسؤولين في الحكومة الأميركية واضحون في قولهم: إن مقتل 1000 إسرائيلي هو عدد كبير للغاية. حسناً، سؤالنا لهم هو: كم عدد القتلى الفلسطينيين المطلوب؟". سؤال إيفا المُضاعَف يفضح النوايا الإسرائيلية المحكومة برؤى دينية متشددة، والتي أنتجت خطة قتل استراتيجية مفادها أنه مقابل مقتل كل مواطن إسرائيلي قتل، يجب قتل 100 فلسطيني، فيكون المجموع النهائي مقتل 100000 ألف فلسطيني، وعندها قد تجد إسرائيل مبرراً لوقف الحرب.
وعلى الرغم من إعلان جميع أعضاء حكومة الحرب الإسرائيلية أن هدفهم من هذه الحرب، بالإضافة إلى القضاء على حركة "حماس" هو تحرير الرهائن الإسرائيليين، فمن الواضح أن أهل الرهائن أنفسهم لا يصدقون هذه الشعارات، ذلك أن غريزة الانتقام، معطوفة على الرؤى الدينية المتشددة، تتفوق على التفكير السياسي والعقلاني. وقد تساءل حاييم روبنشتاين، المتحدث باسم أسر الرهائن والمفقودين: هل هناك خطة؟ هذا ما نريد معرفته"، وذلك في سياق الأنباء المتتالية عن مقتل رهائن في عمليات القصف المتواصلة هذه.
وبينما تتركز الأنظار على قطاع غزة، يخوض المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية، منذ سبعينات القرن الماضي، معركة "غوش إيمونيم"، كما جاء في بحث إيان لوستيك بعنوان "للأرض وللرب: الأصولية اليهودية في إسرائيل"، 1988. ويبدو أن ما نشهده هذه الأيام ليس إلا جزءاً من معركة "كتلة الإيمان"، التي يخوضها اليمين الإسرائيلي المتطرف ضد الفلسطينيين، وضد العلمانيين، وضدّ أيّ صوت ينادي بالسلام، ذلك أن معارك "كتلة الإيمان" لا تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية، فهي راديكالية، صفرية، هدفها الوحيد هو إبادة الآخر.