لم يشأ قلب الشاعر السعودي محمد زايد الألمعي، أن يتوقف عن الخفقان، قبل أن يودّع محبيه بقصيدة أخيرة تناقلها محبّوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. توقفت رحلة الشاعر لتبدأ رحلة شعره وقصائده. وعلى الرغم من أن القصيدة ليست جديدة لكنها بدت أشبه برسالة وداع أو مرثية ذاتية كتبت قبل أوانها:
"سـأموت قليلا
وستحزنون مؤقتا
وبعدها ستحتفلون
وتتحدثون عن عمق سخريتي".
توفي صاحب "قصائد من الجبل"، الديوان الذي نشره في 1983، في أحد مستشفيات القاهرة إثر جلطة دماغية قاومها ليومين ثقيلين، لتسقط في 18 ديسمبر 2023 آخر أوراق شجرته المثمرة. قضى معظم سنوات عمره يتكلم بصمت، ويبذر القصيدة تلو الأخرى. سقطت شجرة هذا العام بأكملها مخلفة غصنا ألمعيا سيظل يعيش عمره فينا ربيعا بأكمله:
"وانتصبت على شرفات المدينة
مهيبا كهذي الجبال
هو صدر عصيّ
يناجز روحي
التي آذنت بالزوال".
كان محمد زايد الألمعي صوتا خاصا في سماء الشعر الحديث في وطنه وفي العالم العربي. كتب بلغة تتسم بالجمال والعمق، حيث عانقت كلماته الفضاء وتسلل إلى قلوب القراء بحساسية فائقة. وقد عاش حياة إبداعية ثرية، إذ أنه لم يكن شاعرا فحسب، بل كان كاتبا وأديبا بارعا قدّم رؤية فكرية وحداثية مختلفة، تناول فيها قضايا المجتمع والإنسان بعمق وتأمل، كما أنه امتلك فلسفة تخصه، عبر عنها في مقالاته ولقاءاته، مساهما بذلك في إثراء الحوار الثقافي، وفتح دروب للنقاش الحيويّ المتجدّد.
تميّزت قصيدة الألمعي بالتنوع والغنى القابل للتفسير على أكثر من وجه، وكتب بلغة بسيطة موحية في مواضيع تتراوح بين الحب والطبيعة والإنسانية
بدأ حياته كمعلم، ثم انتقل إلى ميدان الصحافة الثقافية، حيث كان له دور بارز في جريدة "البلاد"، كما شارك في تأسيس مجلة "بيادر" الأدبية التي عكست رؤيته الأدبية وأسهمت في تطوير المشهد الأدبي في المملكة.
تميّزت قصيدة الألمعي بالتنوع والغنى القابل للتفسير على أكثر من وجه، وكتب بلغة بسيطة موحية في مواضيع تتراوح بين الحب والطبيعة والإنسانية. كان يجمع بين الرومانسية والوجدانية، مما جعل قصائده تلامس القلوب وتثير المشاعر بطريقة استثنائية.
لم يقتصر إسهامه على الشعر فحسب، بل كانت له بصمة واضحة في مجال الصحافة الثقافية والأندية الأدبية. عاش ينقل تجاربه الحياتية وفلسفته الوجودية من خلال ما يكتبه أو يقوله. كما أسهم في توجيه الانتباه وقرع الجرس نحو القضايا الثقافية والأدبية المهمة.تجلى في مقالاته بحس فكري مستقل ورؤية حضارية، حيث نقل فكره الفلسفي بطريقة تفتح آفاقا جديدة أمام القارئ.
ترك الألمعي بصمته أيضا في ميدان التلفزيون، حيث شارك في لقاءات وبرامج ثقافية، مساهما بذلك في توسيع دائرة الحوار الثقافي وتعزيز التواصل الفكري. كما أنه لم يكن يكتفي بمجرد الكتابة باعتباره مثقفا بل عاش –أيضا- ناشطا في الحياة الاجتماعية، ومشاركا في فعاليات ثقافية وأدبية متعددة، مما جعله شخصية محورية له جماهيريته التي آلمها وأثّر فيها رحيله الكبير، وهذه المكانة المميزة هي التي دفعت بوزارة الثقافة بتوجيه من وزيرها الأمير بدر بن فرحان بجمع وطباعة أعماله.
وداعا أيها الراحل الكبير. لقد صنعت بكلماتك لحظات من الفرح التي لن تُنسى، وصورت لنا عوالم عشناها من خلال قصائدك وروحك الطيبة الرائعة. سيظل وجدانك الإنساني والشعري ملهما لنا، وسيرن صداه مرارا في الأذهان والصدور:
"وما كان إلا فتى حلمه لم يصل
منذ خمسين عاما ولم يتئد
يا لهذا العجوز الولد".