ينظر بعض الأدباء بتعال وسخرية للأدب الذي يكتب أثناء الحرب، وهي نظرة حديثة تعكس تحولات في الرؤى أو في الوظائف الأدبية كما يتصوّرها هؤلاء الكتّاب. نظرة هي على النقيض من سلوك الشاعر العربي القديم الذي لم يكن ليغفل حدثا في جواره دون أن يعلن رأيه، أو يصطف إلى جانب عشيرته إذا اقتضت الحرب ذلك وتوافق مع ضميره الخاص.
إلى قبل عقود قليلة لم تكن هذه النظرة الساخرة سائدة في الأدب العربي بل كان الشاعر، بدرجة أولى، مطالبا بإعلان موقفه عبر كتابة قصيدة تنتصر للقضيّة الوطنية أو القومية، إذا لم تكن القضيّة أضيق منهما كالانتصار للطائفة من خلال تمجيد رموزها الدينية أو للحزب بأيديولوجيته النضالية أو الجهادية. وهو منحى لم يختف تماما من الكتابة الأدبية المواكبة للأحداث، وإنّما ضاقت منابره الإعلامية بعد أن اتسعت وسائط التعبير الشعبية عبر الإنترنت حيث انتشر الرأي بالكلمة والصورة والصوت في مستويات عديدة. فقبل هذه الوسائط كانت هناك لوحات غويا وبيكاسو وقصائد لوركا ونيرودا والجواهري والبردوني وأمل دنقل ومحمود درويش، وهناك قصائد كانت بمثابة الصرخة أو اللعنة أو الشتيمة كما هي قصائد مظفر النواب وأحمد مطر ونزار قباني وأحمد فؤاد نجم، بل وأصبحت بعض هذه النصوص ملازمة لأحداث محدّدة كقصيدة "مديح الظلّ العالي" لدرويش التي جاءت أثناء حصار بيروت 1982.
لهذا يغفل الساخرون من الأدب الذي يكتب أثناء الحرب الكثير من التجارب الفنية المهمّة التي انتشرت عبر التاريخ سواء في الشعر أو الرواية أو الرسم والموسيقى والتي كان لها حضورها اللافت والمباشر في التأثير على مجريات الحروب أو الصراعات. فهناك قصائد تحوّلت عباراتها إلى شعارات، وملصقات ولوحات وأغان بدت ضرورات تعبيرية لا بديل لها.
لنتصوّر أنّ الكاتب يعيش الآن في غزّة ويواجه قصف الصواريخ الإسرائيلية والتهجير القسري بعد تهديم المنازل وأماكن اللجوء المؤقت. كيف سيكون حاله وبالتالي نصّه الأدبي؟
عكس أدب الحرب منطلقات تاريخية واجتماعية، ففي الماضي سادت القصص الأسطورية كالتي في الكتب الدينية أو الملاحم مثل "الإلياذة" و"الأوديسا" وحروب الأبطال الشعبيين وقدراتهم الخارقة وصولا إلى الأبطال التاريخيين الذين يحمون شعوبهم أو ينتصرون لها بعد أن يقودوا معارك يتباهون بها. وفي كلّ مرّة تكون هناك أسباب للحرب كإنقاذ الحبيبة المختطفة أو غزو أرض الأعداء والانتصار للقبيلة أو للوطن أو للدين، وقد تكون لأهداف غامضة أو غير مفهومة للمقاتلين كحال أبطال الروايات التي كتبت بعد الحربين العالميتين في القرن العشرين، حيث ظهر الجنود فيها متذمرين من حروب سيقوا إليها دون إرادتهم. وقد قرأنا روايات مهمة صوّرت قسوة الحرب في المعارك أو ما تخلّفه من آثار بعد انتهائها على الصعيد الاجتماعي والنفسي، كروايات تولستوي وستندال وأريش ماريا ريمارك وهمنغواي وسفيتلانا أليكسييفيتش.
وإن لم يمتز بعض النصوص الأدبية بأهمّية فنية تضعها ضمن آداب الحروب الخالدة، فإنّ أهمّيتها تكمن في تعبيرها عن أحداث تحوّلية هائلة كالحروب، وسواء كانت هذه الأهمية تخصّ الكاتب نفسه كتعبير عن رأي، أو تخصّ المجتمع الذي شهد هذه الأحداث.
فهناك بعض الأعمال الفنّية والأدبيّة التي لا تبقى أبعد من زمن الأحداث نفسها، لكنّها في تعبيريتها المباشرة والآنية تصبح جزءا من تاريخ الحدث ولا تتعدّاه إلى أزمنة مستقبلية أخرى، وهو ما نجده في كثير من الملصقات الفنية والقصائد، حتى إنّ شاعرا مثل محمود درويش ترك الكثير من قصائده حين جمع أشعاره الكاملة.
قبل سنوات سمعتُ أحدهم في ندوة يقول إنّه مع الأدب الذي يكتب أثناء الحرب على أن نجد فيه ما يؤكّد قربه من الأدب الرائع. أدركت وقتها أنّ كلمة الرائع هذه فضفاضة أكثر مما يحتملها أي معنى. فكيف يمكن كتابة أدب رائع في الحرب؟ لنتصوّر أنّ الكاتب يعيش الآن في غزّة ويواجه قصف الصواريخ الإسرائيلية والتهجير القسري بعد تهديم المنازل وأماكن اللجوء المؤقت. كيف سيكون حاله وبالتالي نصّه الأدبي؟ هل سيكون رائعا إذا امتلأ بمفردات الأشلاء والدماء والجثث والموت؟ ثمّ، هل علينا أن نطلب منه تأجيل كتابة نصّه حتى انتهاء الحرب لكي يكون موضوعيا؟ ماذا لو قُتل في الحرب ولم يستطع أن يكتب نصّه المؤجل؟