ولعل هذا الفارق بين الطائفة السنيّة والطوائف الأخرى عائد أساسا إلى كونها، في نواتها الرئيسة، طائفة مدينية نشأت تاريخيا وتطور حضورها السياسي والاقتصادي- الاجتماعي في نطاق مدن الساحل اللبناني وتحديدا طرابلس وبيروت وصيدا، وذلك قبل نشوء دولة لبنان الكبير عام 1920 والتي ضمت هذه الحواضر "السنيّة" إلى جبل لبنان كمركز ثقل سياسي كان إلى هذا الحد أو ذاك "مستقلا" عن السلطنة العثمانية أو يتمتع بنوع من "الحكم الذاتي" المحمي من الدول الغربية في مراحله الأخيرة.
والواقع أن جبل لبنان الذي يعد الموطن التاريخي للطائفتين الدرزية والمسيحية وبالأخص المارونية، كان يختبر بوتيرة يومية وعلى مدى مئات السنين إمكان تعايش عصبيتين طائفيتين في نطاق جيوسياسي واحد، وهو ما جعل هاتين العصبيتين صلبتين بالمقارنة مع الاجتماع السنّي ذي البعد المديني والذي تبلور في كنف الإمبراطورية العثمانية بعيدا عن الصراعات السياسية الطائفية التي كان الجبل مسرحا واسعا ومستداما لها.
وهذا من دون إغفال انضمام عصبية ثالثة إلى لبنان الكبير هي العصبية الشيعية في الجنوب والبقاع، حيث تسود العشائر على مساحة السهل في امتداد للتركيبة الديموغرافية العربية عبر سوريا القريبة.
"طبائع" الطوائف
والحال لا يمكن فهم الطبيعة السياسية الاجتماعية للطائفة السنيّة وقياس حضورها وسلوكها داخل النظام اللبناني إلا في نطاق مقارنتها مع "طبائع" الطوائف الأخرى، ضمن سياق تاريخي ثابت ومتواصل. مع العلم أن الطوائف كلها شهدت تحولات داخلية دائمة وملتبسة بما فيها الطائفة السنيّة، التي برز فيها في مرحلة ما بعد الـ2005، جنوح واستعداد لتكوين عصبية، وذلك بدفع من صعود الريف السنّي في الشمال والبقاع بتحفيز من التوتر السياسي والمذهبي والأمني مع "حزب الله"، والذي اندلع من دون هوادة منذ اغتيال رفيق الحريري. ولكن تجربة العصبية السنيّة لم تتبلور و"تتمأسس" على نحو صلب، وبقيت تجربة رخوة ومتأرجحة، ولا سيما بالقياس إلى عصبيات الطوائف الأخرى الكامنة والصلبة.
وإذا كانت قراءة احتمالات وآفاق اختراق "حزب الله" للجسم السياسي- الاجتماعي السنّي تفترض الأخذ في الاعتبار مرونته، وربما هشاشته، ودائما بالمقارنة مع بقية الأجسام الطائفية المحتقنة والعنيدة، إلا أن هذه القراءة تبقى ناقصة وملتبسة إن لم تأخذ في الحسبان مسألتين: نوعية الاختراق الذي يبتغيه "الحزب" ويسعى إليه، والواقع السياسي السنّي الراهن.
ذلك أن طبيعة "حزب الله" المزدوجة كحزب سياسي بنواة أمنية عميقة، بوصفه جزءا من منظومة عسكرية وأمنية إقليمية، ليست مسبوقة لدى أي من الأحزاب اللبنانية في تاريخ لبنان. وهذا كاف للنظر إلى اختراقات "حزب الله" للطوائف الأخرى، ولا سيما الطائفة السنيّة، نظرة مختلفة عن تجارب اختراقات الأحزاب والتيارات للساحات الطائفية "المضادة".