تتمتع إسرائيل بتفوق عسكري ساحق، ولكنها مع ذلك تجد صعوبة هائلة في تطوير استراتيجية فعالة للتعامل مع شبكة الأنفاق المعقدة والواسعة تحت قطاع غزة، التي تعيق بشكل كبير فعالية القدرات العسكرية الإسرائيلية المتقدمة، وتؤمن لـ"حماس" والمقاتلين الآخرين غطاء وقائيا ومزايا تكتيكية.
وبعد دراسة معمقة لجملة من السبل لمواجهة هذا التحدي، استقر رأي الجيش الإسرائيلي مؤخرا على إطلاق برنامج تجريبي يتضمن ضخ مياه البحر في نظام الأنفاق تحت الأرض. وتهدف هذه الاستراتيجية العسكرية غير التقليدية إلى تفكيك شبكة "حماس" السرية المعقدة، وإجبار نشطاء الحركة على الظهور على السطح.
وبينما لا يمكن تأكيد فعالية هذا النهج غير التقليدي ونتائجه العسكرية، فقد أثار مخاوف جدية بشأن التداعيات البيئية المحتملة على المدى الطويل. ومن بين هذه المخاوف تلك المتعلقة باحتمال تلوث المياه الجوفية في غزة، وتلوث التربة بسبب إدخال مياه البحر والمواد الخطرة من الأنفاق، ناهيك عن خطر التأثير المحتمل لهذا الخيار على البنى التحتية الهشة بالفعل داخل هذه الجيوب.
وقد تم حفر شبكة أنفاق غزة في الأصل أوائل الثمانينات لتجاوز الحدود بين مصر ورفح، وكانت في البداية بمثابة طريق للتجارة غير المشروعة وتهريب الأسلحة، قبل أن تتوسع أغراضها مع مرور الوقت، لتشمل الوظائف الدفاعية والهجومية.
وعلى المستوى الدفاعي، تستخدم الأنفاق في المقام الأول لتخزين الأسلحة والإمدادات اللوجستية (الوقود والماء والغذاء)، وإنشاء مقرات القيادة والسيطرة. وفي المقابل، تتضمن الوظيفة الهجومية شبكة معقدة من الأنفاق تمتد إلى داخل إسرائيل، مما يتيح القيام بأعمال هجومية على نطاق صغير واختطاف الرهائن.
حذر خبراء البيئة من التلوث المحتمل لإمدادات المياه المدمرة بالفعل في غزة والإضرار بمحاصيلها. ومن المحتمل جدًا أن تتسرب مياه البحر إلى التربة من الأنفاق، خاصة في المناطق التي تضررت فيها الأنفاق سابقًا
منذ سيطرتها على غزة عام 2006، أدركت "حماس" قدرة شبكة الأنفاق على توفير الملاذ الآمن والمزايا التكتيكية ضد القدرات العسكرية الإسرائيلية المتفوقة، وقد شجع هذا الفهم الحركة على تطوير هذه الأنفاق بشكل مكثف.
وقد مكّن الحجر الرملي الناعم الطبيعي الموجود أسفل غزة "حماس" من الحفر بشكل أعمق– يتجاوز الآن 20 مترا (65 قدما) مقارنة بالأنفاق الأصلية التي كانت في حدود 10 أمتار فقط (32 قدما)– مما يزيد من صعوبة استهداف هذه الممرات وتدميرها. بالإضافة إلى ذلك، عززت "حماس" هذه الأنفاق بالخرسانة مما يعزز مقاومتها.
وبحلول عام 2021، امتدت الشبكة إلى أكثر من 500 كيلومتر (310 أميال)، ما يوفر لـ"حماس" ملجا آمنا بعيدا عن متناول القدرات العسكرية الإسرائيلية الهائلة. ومنذ بدء الهجوم البري في غزة، ادعى الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف أكثر من 800 فتحة وصول إلى شبكة الأنفاق وقام بتدمير أو إغلاق أكثر من 500 منها. ولكن على الرغم من هذه الجهود، تظل شبكة الأنفاق نفسها شديدة الخطورة بحيث يتعذر على إسرائيل تطهيرها، مما يجعل منها عالما سفليا تحت سيطرة "حماس".
وفي سياق خطتها الجديدة لتحييد الأنفاق، أكملت إسرائيل تجميع مضخات كبيرة لمياه البحر على بعد حوالي ميل شمال مخيم الشاطئ للاجئين، منتصف الشهر الماضي تقريبا، يستطيع كل منها سحب المياه من البحر المتوسط، ونقل آلاف الأمتار المكعبة من المياه في الساعة إلى الأنفاق، مما قد يؤدي إلى إغراقها في غضون أسابيع.
وفي الأسبوع الماضي، أكدت مصادر مختلفة أن عملية غمر الأنفاق قد بدأت بالفعل، وإن كانت بشكل تجريبي محدود. وبينما اعتبر المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أن التجربة الأولى كانت ناجحة، أكد مسؤولو "حماس" أن الأنفاق مصممة لتحمل الفيضانات، من بين تهديدات أخرى. وفوق ذلك، شرح الخبراء كيف أن الأنفاق ليست كلها على المستوى نفسه، ما يشير إلى أنه في حين أن بعض الأقسام قد تغمرها مياه البحر، إلا أنها قد لا تؤثر على الشبكة بأكملها بشكل موحد.
وبغض النظر عن فعالية هذه الطريقة، فقد حذر خبراء البيئة من التلوث المحتمل لإمدادات المياه المدمرة بالفعل في غزة والإضرار بمحاصيلها. ومن المحتمل جدًا أن تتسرب مياه البحر إلى التربة من الأنفاق، خاصة في المناطق التي تضررت فيها الأنفاق سابقًا.
ويمتد الخطر إلى ما هو أبعد من تسرب المياه شديدة الملوحة إلى الأرض، فعلى طول ساحل غزة، تتلوث مياه البحر بمياه الصرف الصحي غير المعالجة التي يتم تصريفها باستمرار في البحر من نظام الصرف الصحي المختل في القطاع. كما أن مياه البحر ستغسل جميع المواد السامة الموجودة في الأنفاق، سواء أدخلتها إسرائيل أو خزنتها "حماس"، إلى التربة والمياه الجوفية. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم تلوث المياه الجوفية، التي تدهورت بالفعل بسبب الحصار والحروب.
على المجتمع الدولي تكثيف الجهود لمنع تل أبيب من إضافة انتهاك آخر للقانون الإنساني الدولي إلى سجلها الواسع بالفعل
وعلى نحو مماثل، يمكن لخطة غمر الأنفاق بمياه البحر أن تتسبب في أضرار طويلة الأمد للزراعة في غزة وتشكل بالتالي تحديا خطيرا لخيارات المحاصيل، ناهيك عن الأخطار التي تهدد البنية التحتية المتدهورة بالفعل للخدمات الأساسية والمباني السكنية.
ولكن إسرائيل، على الرغم من هذه المخاطر، سوف تجادل على الأرجح بأن إغراق الأنفاق هو هدف عسكري "متناسب" من منظار القانون الدولي، مستشهدة باستخدامها من قبل المقاتلين الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن هذه الطريقة يمكن أن تسبب أضرارا بيئية دائمة، وهذا أمر غير قانوني، بل إن إغراق شبكة الأنفاق بكميات كبيرة وعلى فترة طويلة يمكن أن ينتهك معايير القانون الإنساني الدولي العرفي التي تحظر أساليب الحرب التي من المتوقع أن تسبب أضرارا واسعة النطاق وشديدة وطويلة الأمد للبيئة الطبيعية.
وعلى الرغم من تاريخ إسرائيل في اللامبالاة حيال الحياة المدنية في غزة، فإن التأثير المحتمل لهذه الاستراتيجية العسكرية على البيئة والبنية التحتية يمكن أن يكون مصدر قلق ثانوي. بيد أن تجاهل إسرائيل المستمر لحياة المدنيين في غزة يؤكد أن تداعيات استراتيجيتها العسكرية غير التقليدية على كل من البيئة والبنية التحتية قد تكون أقل إثارة للقلق. ولذلك، يجب على المجتمع الدولي تكثيف الجهود لمنع تل أبيب من إضافة انتهاك آخر للقانون الإنساني الدولي إلى سجلها الواسع بالفعل.