ينبغي للكاتب العربي في هذه الأيام ألا يُصدم حين يبدي رأيه في أحداث كأحداث غزة اليوم أن يتهم بهذه التهمة الرهيبة "صهيوني" فدعاة الإسلام السياسي، وهم أبعد الناس على الإطلاق عن عفة اللسان، قد جرأوا عامة الناس على إطلاق مثل هذا الحكم وغيره من أحكام من دون طول تحقيق ولا تدقيق.
إطلاق ألقاب التصهين هو الوجه الآخر لجريمة التكفير التي كانت فتنة محمومة في التسعينات، والتي يبدو أنها قد هدأت قليلاً في السنوات الأخيرة أو تراجعت، لتحل محلها سلاطة لسان لا تختلف عن الأولى في شيء. كل الذي تغير هو أن الناس أصبحوا يتهيبون أن يُطلق عليهم وصف "التكفيري" لما يترتب عليه من عقوبات جنائية من كل نوع، وبسبب نفور الناس من أهل التكفير، بعد رحلة وعي كلفتنا الكثير.
ما أريد قوله هنا، هو أن المبدأ الأخلاقي واحد، والقيم لا تتجزأ، هذا الذي يتهم الناس بالتصهين أو أنهم يتقاضون مرتبات من الموساد، بدون براهين قاطعة هو أخو التكفيري ولا تختلف عنه، وكلاهما خرج من بيئة واحدة ورضعا من ثدي واحد. إنها نبتة واحدة بفروع مختلفة.
هناك سوء ظن فشا بين العرب ولم يكن الوضع هكذا قبل ثورة الإعلام الجديد، ولذلك يفسر كل تصرف، على صعيد الدول أو الأفراد، أسوأ تفسير، وكأنه لم يعد من الممكن حمل سلوك الأخ على أحسن المحامل. نحن في عجب هذا الأسبوع من مباراة في كرة القديم أقيمت بين نادي الأهلي المصري ونادي الاتحاد السعودي في مسابقة ترعاها السعودي، انتهت بتكسير كراسي الملعب والهتاف لفلسطين وكأن السعودية ضد فلسطين، رغم أن الدعاء لفلسطين ولغزة بشكل أخص يتم كل أسبوع في أشرف بقعتين، المسجد الحرام والمسجد النبوي.
العرب اليوم بحاجة إلى التطبيع في ما بينهم، وإلى إغلاق قنوات الارتزاق، وأبواق الطامحين إلى الثروة والشهرة
مشكلة الجماهير العربية أنها خضعت للاستقطاب، فمن امتلأت ذاكرته بأدبيات الخطاب الثوري الذي لا يجد أدنى وخزة ضمير في أن يتهم خصومه بالخيانة وانعدام الشرف، لم تعد تملك القدرة على الشك في ما يرد إليها من معلومات. الشك في المعلومة هو الخطوة الصحيحة الأولى للوصول إلى المعرفة الصحيحة. من ناحية أخرى، العرب بحاجة إلى أن يحلّوا مشاكل الإعلام الجديد، خصوصاً عندما يكرس أفكارا من مثل التخوين والحكم بالتصهين بهذه الطريقة الجريئة للغاية.
العرب اليوم بحاجة إلى التطبيع في ما بينهم، وإلى إغلاق قنوات الارتزاق، وأبواق الطامحين إلى الثروة والشهرة من خلال إشعال شرارة نار الكراهية بين الإخوة. كم عدد الإعلاميين الذين أثروا على حسابنا، وكأنهم الهجاؤون من الشعراء، يقول قصيدة السباب فيتقاضى ثمنها، ثم يهجو الأخير لصالح الأول. كل هذا يحتاج إلى معالجة ماهرة، ولن تجدي المعالجة الماهرة إلا إذا صدقت النوايا، حينها يمكن أن نتحدث عن تطبيع العلاقة بين كل العرب مع كل العرب.