يتواتر الحديث مؤخرا حول إعلان لوقف إطلاق النار وخارطة طريق تبدأ بمرحلة أولى فيها ترتيبات لإجراءات بناء الثقة أبرز بنودها تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطرق والمطارات والموانئ ودفع الرواتب، تعقبها مرحلة حوار وطني لترتيبات تقاسم السلطة والثروة، ثم أخيرا مرحلة انتقالية لحكومة تشاركية لمدة عامين تليها انتخابات.
تبدو الخطة منطقية إذا ما توفرت رغبة الحل، لكن تظهر كثير من المعضلات التي تجعل منها غير قابلة للتنفيذ، كي تضاف لقائمة المبادرات والاتفاقات التي وُقعت دون نية التنفيذ، ولا يمكن نسيان أن هذه الحرب سبقها اتفاق لم ينفذ وتم نسفه بالحرب.
لا يبدو أن خارطة الطريق ستلقى مصيرا أفضل من المبادرة الخليجية التي تم توقيعها عام 2012 وأخفقت وانتهت بحرب عام 2015 عندما اندلعت الحرب، بل إن المشهد السياسي تغير نحو الأسوأ سواء من خلال طبيعة الفاعلين أو أسباب الانقسام والخلاف، هذه الفروق تسترعي الانتباه لإدراك صعوبة الوضع الذي وصلت له الأمور.
المبادرة الخليجية التي تم توقيعها عام 2012 عقب انتفاضة شعبية اجتاحت المدن اليمنية الرئيسة مطالبة برحيل الرئيس علي عبدالله صالح، كانت سلمية في معظمها، ودعت لتداول سلمي للسلطة. حينها كانت الواجهة السياسية لهذا الحراك الشعبي هي الأحزاب التي أفرزتها الحركة الوطنية اليمنية الحديثة منذ نشأتها بدايات القرن العشرين ولا تختلف كثيرا في تصوراتها حول الدولة اليمنية، حيث أصبحت بعض المبادئ راسخة ولو قولا، مثل الجمهورية والوحدة والديمقراطية، وصارت من المسلمات السياسية التي قد يُختلف حول التفاصيل المتعلقة بها.
انقلبت العملية السياسية التي التزم بها جميع الأطراف بسبب أمور كثيرة:
أولها: المسؤولون عن المرحلة الانتقالية وعززها السياسيون المحيطون بها، فرغم أن بنود المبادرة حددت فترة السلطة زمنيا وقلصت من صلاحياتها الدستورية كرئيس دولة، لكن بنشوة ما يشبه حالة الإجماع السياسي المحلي والدولي بدأ التمرير لكثير من التجاوزات، أبرزها تمديد المرحلة الانتقالية دون إطار زمني واضح، بحجة أنها مهام تنتهي بإنجازها وليس بفترة زمنية محددة. فيما بدا تلاعبا واضحا لتكريس سلطة ديكتاتور جديد، بشكل يتنافى مع الهدف من المرحلة الانتقالية والحراك الشعبي السابق لها.
كيف لمن لا يريدون مشاركة السلطة في أطر مكوناتهم الضيقة التحاور فيما بينهم للتشارك بشكل أوسع... إنهم عمليا سعداء بسلطة مطلقة ممتدة على مساحة الإقطاعيات التي سيطروا عليها
ثانيا: النزعة نحو العنف، فيما حاول حراك 2011 كسر قاعدة الوصول للسلطة عبر العنف في اليمن سواء بانقلاب أو اغتيال أو اقتتال، بالتالي اتسمت مراحل تغيير السلطة بالدموية جراء فشل اليمنيين في إيجاد طريقة سلمية ومقبولة للجميع لتداول السلطة. هنا تضافرت عدة عوامل، وهي رغبة الانتقام لدى علي صالح وآيديولوجية الحوثي العنيفة ومعرفته أنه لن يجني من مسار السياسة والانتخابات بقدر ما يمكنه أن يجني من خلال السلاح، لأنها جماعة مسلحة ومقاتلة بشكل ممتاز لكنها ضعيفة سياسيا.
ثالثا وأخيرا: الضامن الأممي وحدود قدراته، في وقت كان الجميع ملتزما بالاتفاق خشية عواقب تحدي المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة، لم يكن هذا الأمر يعني فعلا جماعة الحوثيين الذين تحركوا بمنطق من ليس لديه شيء يخسره.
إذن، ما الذي تغير الآن؟ تبدو الأمور قد ساءت فعلا، فمشهد الأحزاب السياسية تلاشي لصالح جماعات مسلحة ليس لديها الحد الأدنى من الاتفاق ولو نظريا على شكل الدولة اليمنية؛ ففي الوقت الذي تركز فيه المرحلة الثانية للحوار على تقاسم السلطة والثروة، فإنها تتجاهل حقيقة أن هذه الحرب مختلفة ليس فقط في قسوتها وتعقيدها بل في طبيعتها. وبينما شهد اليمن الكثير من الحروب والصراعات على السلطة والثروة، فهذه الحرب لا تقتصر على ذلك بل تمتد لما هو أعقد؛ لشكل الدولة اليمنية، فهل ستكون دولة دينية مذهبية كما يؤمن بها الحوثيون؟ أم منقسمة لدولتين كما يتصورها المجلس الانتقالي؟ أم غيرها من تصورات تدور حول فيدرالية وكونفدرالية وغيرهما؟
النزعة السلطوية لقيادات الجماعات المسلحة المختلفة باليمن صارت أسوأ مما سبق، لأنها غير محصورة بدستور كما سبق، بعد تلاشي كل ما راكمه اليمنيون في نضالاتهم السابقة من مساحات حرية انتزعوها بالصحافة والبرلمان وغيرهما بما كانت تخلقه من إمكانيات المساءلة التي تخفف من الفساد والنزعة السلطوية.
فكيف لمن لا يريدون مشاركة السلطة في أطر مكوناتهم الضيقة التحاور فيما بينهم للتشارك بشكل أوسع... إنهم عمليا سعداء بسلطة مطلقة ممتدة على مساحة الإقطاعيات التي سيطروا عليها.
إضافة لهذا، فهو اتفاق يكرس للعنف؛ فالممثلون لليمن هم جماعات مسلحة بلا ممارسة سياسية، واكتسبت حضورها من خلال السلاح، وهو سلاح غير مقرون بالعمل السياسي الوطني كما حدث في مرحلة ما من تاريخ اليمنيين في منتصف القرن الماضي، بل سلاح مرتبط بمفاهيم الغلبة والعصبية.
بناء على هذا الاتفاق الذي يعترف بالعنف كسلطة لها كامل الحق في جني غنائم الحرب، كيف يمكنه أن يمنع تجدد العنف بعد مكافأته؟
أما الضامن الأممي، فلقد فقد هيبته، خاصة أن تعامل الحوثيين المستهتر مع الأمم المتحدة تمت مقابلته بالتغاضي أو ربما الدلال لكسب رضاه لعله يقدم تنازلا هنا أو هناك، مما يشجع الكثيرين على سلك ذات المسلك تجاهها.
لا يبدو اليمن قريبا من السلام، لكن تنتهي صفحة من الحرب تتعلق بأبعادها الإقليمية المباشرة في بعض جوانبها، لتظل بذور الصراع متجذرة ومفتوحة لمستقبل قريب مضطرب
في الغالب لن يتجاوز الاتفاق تحقيق المرحلة الأولى، التي لو تحققت بشكل سليم ستخفف كثيرا من معاناة الناس. على سبيل المثال، مطلب تسليم المرتبات لو تم توجيهه للمستحقين الفعليين دون تلاعب بكشوف موظفي الدولة الأصليين ولم يقتصر صرفها على من استبدلوهم بموظفين ضمن معايير الولاء والمحسوبية المحضة دون أدنى احترام لمعايير الكفاءة، وكذا تم رفع الحواجز عن الطرق فيما يشكل تحديا ليس بالسهل كما يبدو للبعض، فقطع الطرق لم يعد مجرد عمل بهدف عسكري، بل إن إغلاق الطرق هو شكل من أشكال رسم الحدود بين الإقطاعيات التي شكلتها الحرب.
من الصعب الجزم هل تطبيع الناس مع رداءة الأحوال باستجابة بسيطة جدا لمتطلبات بديهية في مرحلة ما قبل الحرب، مع استمرار الانقسام السياسي والتدخلات الإقليمية والدولية دون حرب فيها رصاص وصواريخ، بالأمر الجيد ويمكن البناء عليه؟ أم إن مجرد تخفيف بعض الألم الإنساني بمسكنات لا أدوية علاج قد تزيد من أمد المرض لكنها بالتأكيد لن تقضي عليه.
لا يبدو اليمن قريبا من السلام، لكن تنتهي صفحة من الحرب تتعلق بأبعادها الإقليمية المباشرة في بعض جوانبها، لتظل بذور الصراع متجذرة ومفتوحة لمستقبل قريب مضطرب وبعيد عن الاستقرار، ناهيك عن السلام والازدهار.