ما القوى المحرّكة الأساسية في أزمة التمويل هذه؟ وما التأثيرات على السكان السوريين وطبيعة المساعدات الإنسانية في سوريا؟
أولاً، تزايدت المخاوف من التقليص المستمر للمساعدات الإنسانية الدولية المقدّمة للأزمة السورية في السنوات القليلة المنصرمة. ولم يحدث الزلزال المدمر الذي وقع في فبراير/شباط 2023 تغييراً كبيراً في هذه القوى المحرّكة. ينعكس ذلك على النقص الهائل في تمويل خطة الاستجابة الإنسانية في سوريا لعام 2023، التي لم تجمع إلا 33 في المئة من المبلغ المطلوب البالغ 5.41 مليارات دولار، وفقاً لأرقام نظام التعقّب المالي لهيئات الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2023. في العام السابق، لم تتلقّ خطة الاستجابة الإنسانية للأزمة السورية التي تقودها الأمم المتحدة إلا 37 في المئة من احتياجات التمويل لعام 2022.
في الوقت نفسه، انخفضت قيمة عقود الأمم المتحدة مع الشركات الخاصة السورية من 199.7 مليون دولار في عام 2021 إلى 167.2 مليون دولار في سنة 2022، أي بتراجع مقداره 16 في المئة. قبل ذلك بلغت قيمة عقود الأمم المتحدة مع الشركات السورية 244.5 مليون دولار في عام 2020، و230.7 مليون دولار في عام 2019.
شهدت المساعدة الإنسانية الدولية للسكان السوريين والاقتصادات المحلية في البلاد تزايداً ملحوظاً في الأهمية منذ سنة 2011 مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. وزاد عدد منظمات المجتمع المدني في سوريا بشكل كبير بعد اندلاع الانتفاضة في سنة 2011. وكانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أهم مصادر تمويل المساعدات الإنسانية الدولية لسوريا.
إضعاف المنظمات غير الحكومية
في هذا السياق، يؤدي خفض تمويل الخدمات الإنسانية السورية إلى إضعاف المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الحكومية الدولية ووكالات الأمم المتحدة والجهات الفاعلة المحلية على الأرض، بالإضافة إلى أنشطتها. وكما هي الحال في سياقات أخرى في جميع أنحاء العالم، تعتمد الغالبية العظمى من منظمات المجتمع المدني الموجودة في سوريا أو في الدول المجاورة على التمويل الدولي، سواء من الدول الأجنبية أو وكالات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية الدولية.
غالباً ما تفسّر وسائل الإعلام والمسؤولون الغربيون هذا الانخفاض في التمويل الإنساني الدولي بأنه ناتج من "فتور همّة المانحين"، وانسداد العملية السياسية في سوريا بدرجة أقل. لكنه يُفهم أنه بمثابة إعادة توجيه للمساعدات الخارجية نحو الأولويات السياسية الأخرى للمانحين، وخصوصا الغربيين. ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن المساعدة الإنمائية الرسمية، التي تُعرّف بأنها مساعدات حكومية تقدّمها جهات مانحة دولية وتعزّز وتستهدف التنمية الاقتصادية ورفاه البلدان النامية على وجه التحديد، زادت في الواقع في سنة 2022 إلى أعلى مستوى لها تاريخياً، 204 مليارات دولار بعدما كانت 186 مليار دولار في سنة 2021. وقد نتجت الزيادة من سببين. أولاً، شهدت مخصّصات التجهيز واستضافة اللاجئين داخل البلدان المانحة توسّعاً كبيراً، من 12.8 مليار دولار في سنة 2021 إلى 29.3 مليار دولار في سنة 2022. ثم زيادة المساعدة الإنمائية الرسمية لأوكرانيا بعد الغزو العسكري الروسي والحرب العدوانية المستمرة. وقد بلغت المساعدات الخارجية لأوكرانيا16.1 مليار دولار في سنة 2022، مقارنة بـ 918 مليون دولار في سنة 2021.
سيؤدي انخفاض التمويل الدولي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا، ويؤثّر على مستقبل منظمات المجتمع المدني السورية ويهدّد استمرار أنشطتها.وسيساهم ذلك في التدهور المستمر بالفعل للوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، في حين أن الافتقار إلى فرص العمل وانخفاض الرواتب يدفعان مزيداً من الشباب السوريين إلى مغادرة البلاد، وخاصة متخرجي الجامعات والعمال الماهرين، بحثاً عن ظروف حياة أفضل.
تضاعف أعداد اللاجئين
واستمرّ تزايد أعداد السوريين الذين يحاولون السفر بطريقة قانونية وغير قانونية إلى أوروبا طوال السنوات القليلة الماضية. فقد تضاعف عدد السوريين الذين يعبرون الحدود إلى الاتحاد الأوروبي بطريقة غير قانونية بين سنتي 2021 و2022، إذ ارتفع من46,395 في سنة 2021 إلى 92,472، وفقاً للوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس)، في حين ارتفع عدد طالبي اللجوء السوريين للمرة الأولى أيضاً إلى 116,980 في سنة 2022، وكانت ألمانيا وجهتهم الأولى، بزيادة قدرها 17 في المئة مقارنة بسنة 2021. وقد ظهر ذلك أيضاً في الأعداد المتزايدة للسوريين الذين يحاولون مغادرة البلاد بشكل غير قانوني من طريق لبنان.
وبين يناير/كانون الثاني وديسمبر/كانون الأول 2022، ذكرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنها تلقت تقارير عن 51 قارباً متورّطاً في عمليات عبور غير قانونية، وعلى متنها 4334 راكباً.
ووفقاً لأرقام المفوضية في عام 2022، كان 62.2 في المئة من المهاجرين المحتملين سوريين، و28 في المئة لبنانيين، و11 في المئة فلسطينيين. وقد وقعت حوادث مميتة في السنوات الأخيرة في أثناء محاولات مماثلة للمغادرة إلى البحر، بما في ذلك غرق قارب بدائي انطلق من شمال لبنان قبالة مدينة طرطوس السورية، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على 150 شخصاً في سبتمبر/أيلول 2022. ولم يتوقّف هذا الاتجاه في سنة 2023. بل على العكس تماماً: تجاوز عدد الطلبات السورية المقدّمة في النصف الأول من سنة 2023 أي فترة مماثلة منذ أزمة اللاجئين في سنتي 2015-2016،بزيادة طلبات اللجوء على 66,600 طلب.
وفي تقرير نُشر في 11 ديسمبر/كانون الأول، ذكرت خطط الاستجابة الإنسانية لعام 2024 أن العمليات في سوريا ستركّز على الاستجابة "للاحتياجات الإنسانية الأشدّ إلحاحاً، مع تسليط الضوء على الحاجة الملحّة لاستجابة تنموية تكميلية". يأتي ذلك استمراراً للتوجّه الرئيسي والقوى المحرّكة للمساعدة الإنسانية في العقد الماضي في سوريا التي تركّز على توفير الاحتياجات الأساسية مثل المساعدات الغذائية والعينية، والقسائم (تقتصر النفقة على سلع أو خدمات محدّدة)، والنقود وتوفير الملاجئ.
غير أن الاستجابة التنموية التكميلية بقيت محدودة مقارنة بالمساعدات الطارئة، على الرغم من أنها حقّقت تقدّماً طفيفاً في السنوات القليلة الماضية، وخاصة في المناطق التي لا تسيطر عليها الحكومة السورية. مع ذلك، لا تزال هذه المشاريع إلى حدٍّ كبير تهدف إلى إعادة التأهيل الطفيف للبنية التحتية، مع استثناءات قليلة، لا سيما في الشمال الشرقي.
يؤيّد المزيد من الجهات الفاعلة الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني العاملة في سوريا مزيداً من التحوّل إلى نهج أكثر توجّهاً نحو التعافي أو التنمية، بما في ذلك إعادة إنشاء البنى التحتية المحلية أو زيادة المساعدة المقدّمة لقطاعي الزراعة والتصنيع، لتعزيز المشاريع المستدامة، التي لا تزال محدودة، وذلك في إطار معالجة بعض المشكلات البنيوية التي تؤثّر على الاقتصاد السوري. وهناك أمثلة مختلفة في كل أنحاء العالم على فشل المساعدات الإنسانية الكبيرة والطويلة الأجل في تهيئة الظروف اللازمة للتعافي الاقتصادي وتحسين الظروف المعيشية للسكان، في حين أنها تخلق شكلاً من أشكال اعتماد الدولة على المساعدات الدولية.