هل يمكن أن يعكس الفنّ حقيقة العالم؟https://www.majalla.com/node/306426/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%83%D9%86-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D8%B9%D9%83%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%91-%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%9F
منذ أفلاطون والفلسفة تطرح السؤال عما إذا كان يمكن للفن أن يقول الحقيقة، أم أنه مجرد مصدر لذة، أم هو يجمع بينهما فيعلّمنا حقيقة وضعنا.
فهِم أفلاطون المحاكاة التي يعتمدها العمل الفني على أنها مجرد محاكاة للمظاهر، فهي مظهر المظهر. من هنا استصغار صاحب "الجمهورية" للفن وتقليل شأنه. فالصورة الفنية بالنسبة إليه لا تطابق الوجود ولا ترقى إلى المثال، كما أنها لا تطابق حتى الموجود والشيء الممَثَّل. إنها ليست إلا انعكاسا في مرآة، ووهما أجوف.
الفنان عند أفلاطون لا يرقى حتى إلى مستوى الصانع، لكونه لا يصنع سوى صور. الصانع يصنع سريرا، أما الفنان فيمثّل السرير، ليس كما هو، بل كما يظهر. لذلك تقول محاورة "الجمهورية": "الشاعر والفنان ليس لديهما علم ولا رأي صائب عن الأشياء التي يحاكونها".
هذا الموقف، الذي أرسى أفلاطون أسسه، جعل السؤال عما هو العمل الفني، سؤالا مقصيا في الفلسفة لمدة طويلة. كان ينبغي انتظار هيغل، أو قبله بقليل مع النزعة الرومانسية، وقبلها مع ديدرو، لكي يُنظر إلى العمل الفني كنوع من المعرفة. وقد تمخّضت عن ذلك نتائج أساسية. فلشدة ما وقع تأكيد محتوى الحقيقة، وقع إهمال الشكل الحسي و"مادة" العمل الفني. هكذا ظلت الثنائية الأفلاطونية تعمل عملها. وحدها الفينومينولوجيا، وخصوصا مع ميرلوبونتي، ستتكلم في ما بعد عن الطابع الجسدي للعمل الفني.
الفنان عند أفلاطون لا يرقى حتى إلى مستوى الصانع، لكونه لا يصنع سوى صور. الصانع يصنع سريرا، أما الفنان فيمثّل السرير، ليس كما هو، بل كما يظهر
ظهور علم الجمال
العائق الثاني الذي حال دون تطوّر فلسفة للعمل الفني هو ظهور علم الجمال 1750 (بومغارتن)، وخصوصا عند كانط الذي جعل التفكير حول الجميل ليس جهة الفن، ولا جهة موضوع من الموضوعات، وإنّما جهة الحالة الوجدانية للذات. مع هؤلاء سيتخذ جواب النزعة الذاتية عن مصدر الفن شكل بحث عن القدرات الذاتية التي تمكّن الإنسان من إبداع العمل الفني وتذوّقه. الجميل عندهم هو ما يروق وما يثير انفعالات. وهذه الانفعالات فينا نحن، وليست في الأشياء. يتساءل هؤلاء: "ما الداعي إلى الاهتمام بالعمل الفني ما دام تناسق الطبيعة كافيا لكي يلهمنا الشعور بالجمال؟". وهكذا يتحدث كانط عن "امتياز" الجمال الطبيعي بالنسبة إلى الجمال الفني وتفوّقه عليه.
يمكننا أن نجزم أن هايدغر، ومنذ محاضرته عن أصل العمل الفني التي ألقيت في ثلاثينات القرن الماضي، قد عمل على إعادة النظر في فلسفة الفن بطريقة جذرية، وانطلاقا من أرضية مخالفة لكل ما تقدّمها. هناك ارتباط عميق عند الفيلسوف الألماني بين سؤال الفن وإعادة النظر في الأنثولوجيا، هذه العلاقة تتجلى، كما سنتبيّن، في كون العمل الفني هو إحدى الكيفيات الأساسية لـ"حماية حقيقة الوجود واحتضانها".
بعد هايدغر، لم تعد الفلسفة تدّعي التشريع للفن، ووضْع شروط لقيامه وتحديد مرتبته. لقد تعلمت الفلسفة احترام استقلالية العمل الفني، ولم تعد تختزله في اللذة التي يثيرها، ولا، بالأحرى، في محتواه الأيديولوجي. وهي لم تعد تعامله كموضوع للتأمل الميتافيزيقي، وإنما أصبحت ترى فيه نموذجا للحقيقة الملتبسة لوجودنا، أو لعلاقتنا بالعالم. ذلك أن ما يحدث في الفن هو وضع الحقيقة لذاتها في العمل الفني. فالحقيقة لا تحدث في البداية في مكان ما، ثم توضع بعد ذلك في العمل الفني أو تُنقل إليه. الحقيقة تحصل Elle advient عند وضعها في العمل الفني. ينبغي إذاً الانطلاق من العمل، فهو الذي يوجد وراء الفنان، وليس العكس.
العمل الفني يُظهر حقيقة الشيء. ونحن لا نتوقف عند الأشياء على نحو يجعل العالم ينفتح إلا بفضل تجربة الفن. فالعمل الفني يجعل العالم يظهر في الأشياء. فإذا كان التصوّر المعتاد ينظر إلى العمل الفني باعتباره شيئا قائما في العالم، فإن هايدغر يبين أن "العالم متضمن في العمل الفني من حيث أن العالم يُفتتح صراحة في العمل، ويُنصّب من قِبَله". ينبغي أن نؤكد هنا أن هايدغر بأطروحته هذه، يقوض جذريا التصور الإستطيقي للفن الذي يرى أن على الجميل أن يتجلى دون عالم، أن يُفصل عن عالم، حتى يكون موضوعا للتذوق والتمتع الخاليين من كل مصلحة.
العالم فضاء حرّ
ليس العالم مجموعة أشياء، ولا كائنا يحتوي تلك الأشياء. العالم فضاء حرّ لإمكانات. فضاء دلالات وعلاقات يفتحها شعب من طريق قرار حاسم يتعلق بالموت/الحياة، الصواب/الخطأ، البشري/الإلهي. فضلا عن ذلك، فإن العالم ينتمي دوما إلى عصر تاريخي (هناك عوالم بالنسبة إلى كل عصر، لأن هناك شعوبا متعدّدة). يعرض هايدغر لانفتاح العالم عندما يتكلم عن عالم الفلاحة الذي يصبح حاضرا في اللوحة الفنية. نقرأ في محاضرة "أصل العمل الفني": "نختار كمثال أداة عادية: حذاء الفلاح، لن نحتاج لوصفه إلى قيام أمثلة واقعية لهذا النوع من أدوات الاستعمال أمامنا. كل شخص يعرفه. لكن حيث أن الأمر يتعلق بوصف مباشر، فإنه يستحسن أن نسهل الايضاح الحسّي، ويكفي أن نستعين في ذلك باستعمال الصورة. ولأجل ذلك نختار لوحة معروفة لفان غوغ الذي رسم هذا الحذاء-الأداة مرات عدة: لوحة فان غوغ تكشف ما هي الأداة، حذاء الفلاح، في الحقيقة... هكذا ستكون ماهية الفن هي وضع حقيقة الكائن لذاتها في الأثر".
لكي نفهم ما يقوله هايدغر هنا ينبغي أن نستعيد الحقيقة ليس بمعناها الوسيطي من حيث هي تطابق الفكرة مع الشيء، وإنّما من حيث هي اللااختفاء، أي قدوم الشيء وتجلّيه. استبعاد معنى الحقيقة كتطابق هو أيضا الذهاب إلى القول إن العمل الفني ليس محاكاة للشيء الذي يتعلق به. لتوضيح الأمر، يحلل هايدغر لوحة فان غوغ التي تمثل زوج الأحذية. فهذان الحذاءان يشيران إلى العلاقة بالأرض، وإلى عالم الفلاح الذي يحملهما. عندما نقول إن العمل الفني يظهر حقيقة الشيء، فلأن تلك الحقيقة لا تنحصر في الاستعمال العادي للحذاءين. إن اللوحة تكشف "أداتية" الأداة. إن وجود الأداة لم يتجلّ إلا بفضل العمل الفني.
العمل الفني يُظهر حقيقة الشيء. ونحن لا نتوقف عند الأشياء على نحو يجعل العالم ينفتح إلا بفضل تجربة الفن
حقيقة العالم
حقيقة العمل هي تجلّي العالم الذي تستمد الأداة معناها منه. فنظرا إلى أن الحذاء يظهر في اللوحة منتزعا من سياق ما يحيل عليه، فإنه يجعل هذا السياق مرئيا. ما يكشف عنه العمل الفني هو ذلك الشرخ اللامرئي الذي يضم الأرض إلى العالم، ويجمع بينهما. فهو حلّ مؤقت لتوتر دائم. إنه تقريب في ما بين القوتين المتعاديتين. رسم عالم على أرض. الصراع عالم/أرض يتوقف على صراع أكثر عمقا بين الاختفاء والظهور، بين الانغلاق والانفتاح، بين الأرض والسماء، وهذه هي العلاقة التي تشكّل ماهية الحقيقة.
فليس العمل حقيقيا لأنه يقلد واقعا خارجيا، أو بُعدا من الأبعاد النفسية الباطنية ويحاكيهما. إن العمل الفني عندما يقيم عالما، فيدعو الأرض إلى الظهور، يعلنها معركة يغزو فيها انكشاف الموجود في كليته، أي انكشاف الحقيقة. فما يحجبه عنا العالم، في ما يتجلى منه من بداهات تفرض علينا نفسها، هو جزء لا يتجزأ من الحقيقة في تحجّبها، وهو ما يمكن للفن أن يُظهره.
إن انتماء العمل الفني إلى ما يعجز أيّ كان عن إبداعه، حتى ولو كان عبقريا، وأعني إلى الأرض والعالم، إن هذا يضع حدا للقول بالأسبقية الرومانسية للفنان الصانع الذي من شأنه أن ينحت مادة عاطلة ويشكلها حسب هواه واستلهامه.
فالحقيقة التي تضع نفسها في العمل الفني هي التي تولد الفنان وليس العكس. لكن لا ينبغي أن ننسى، مع ذلك، أنها لا يمكن أن تحدث دون فنان، إذ هو الذي ينحتها من حيث هي ملقاة إليه.