"كأنما يعزفن على مغازل خيوطُها من سديم
كأنما ينسِجْنَ الغيوم
إلى حنّاءِ أيديهنّ تهوي النّجوم..."
تقول الأغنية الأمازيغية وهي تحكي عن الأمهات الأطلسيات، سيّدات المراعي، المُزارعات الذهبيات، الفلاحات النبيلات: "نسّاجات الزّرابي" السّامقات سموقَ شجر الأرز. أبدع من أبصرنا في ضباب طفولتنا وطيش يفاعتنا وهنّ يعملن بألقِ ألف نملة ونملة، بأناقة ألف نحلة ونحلة. على عتبات المنازل الطينيّة يغزلن الصوف الذي جزّه الآباء في موسم حلْجِ القطيع، أو يصطفينه بعنايةٍ من أسواق القرى المنسيّة، وقبلئذٍ غسلنه ودقّقنه بعِصِيٍّ من شجرات الصنوبر على صخر النّبع أو حجر البئر. وتحت شمس قائظةٍ نشّفنه على صخرٍ بازلتيّ محموم.
على قِدْرٍ نضجت نارها يهيّئن الألوان خالصة، من قشور السّنديان والرمّان وَهَلُمَّ نباتاتٍ مثل الفوة وثاروبيا وبرعو. ثمّ يلتئمن خليّة يعاسيب كي يُنصّبن المِنسج الشبيه بآلة موسيقى شاهقة، ضالعة في التعقيد. لا شقاء يضاهي دوزنتها في كتاب الأغاني الكوني. وفي ما يعقدن الخيوط المندلقة من ثلمات ذا اللوح إلى كوات اللوح ذاك، غاديات رائحات، بالرقص محلقات، وبالمواويل شاديات. تكسر إحداهن قالب سُكّر إيذانا بعسلٍ حتما سيتلو العمل المرّ. بملء الكدح ينقلن مِنسج الغيوم إلى باحة الدّار. وبوليمة "الرفيسة" وكؤوس الشاي الأخضر المُنعنع، المُشحّر كما ينبغي على الجمر، يشرعن في حياكة خارطة العالم المضاعف التي يستأثرن بمطبخ أسرارها وحدهنّ.
لا تستقيم أنوثة المرأة الأمازيغيّة في هذا المِحكّ العاتي أو يكتمل سلطانها إذا لم تكن نسّاجةً ماهرة، مبدعة على مقاس جمال الطبيعة المظفّر
هذا هو الطقس الذي يسبق معترك النسيج. وما أن يشبكن السطر الأول في اختلاج الخيوط المشدودة كأوتار ألف كمان وكمان أو ألف قيثار وقيثار، حتى يمضي بهنّ موج اللعبة الجارف إلى الأقاصي، مُبحرات في أهوال محيطٍ هنّ من يصنعنه ويغرقن فيه إلى حين. تستغرق الرحلة في أغوار المجهول شهرًا على الأقلّ بحسب حجم السجادة، ووفق نمط هندستها، وبالاحتكام إلى غابة رموزها وبديع أشكالها وغرابة علاماتها.
لا تستقيم أنوثة المرأة الأمازيغيّة في هذا المِحكّ العاتي أو يكتمل سلطانها إذا لم تكن نسّاجةً ماهرة، مبدعة على مقاس جمال الطبيعة المظفّر. ونسْجُ الزرابي بالذات محكوم بأكثر من احتياج دامغ، أوّلها: الحاجة الجمالية، إذ نمط الحياة الأطلسي يزاوجُه نمطٌ فنيٌّ أيضا، وضرورة العيش رغم ثقل الإكراهات المادية والاجتماعية لا تلغي الضرورة الجمالية، وما الحلي والوشوم والنسيج فوق ذلك إلا وجهٌ لافتٌ من وجوه إبداعية المرأة المُعتنية بكينونتها النسائية المفردة، بوجودها الأنثوي الفاتن، بسحرية جاذبيتها الخاصّة.
وإذ تساهم بنسج الزرابي، الوسائد، الحنبل، حصير نبات الدوم...إلخ فإنما تبذل قصارى الجهد في الإنتاج الأسري، مؤثثة بيت الزوجية بما يليق بالمأوى من أيقونات هي مُبتكِرتها بأدوات طبيعية خالصة.
ثمّ الحاجة الاقتصادية، إذ السجاجيد وبقية النسيج منذور لأحلك الأوقات، تحسُّبا لأزمة طارئة، فيكون الدّفع بها للمصير المحزن إلى السوق (بعيون دامعة وقلوب منشطرة) تحت الإكراه مَخرجا لا مناص منه لتدبير هكذا مآزق سوداء.
وفي كلتا الحالتين، تشمخ المرأة النسّاجة إذ هي ملاذٌ فنّي وماديٌّ في آن.
يتعالق في الزّربية الأطلسية (المرابطية والزيانيّة خاصّة) اللون الأحمر والأخضر والأسود والأبيض والأصفر:
وكأنّ الأحمر حقيقة الدم الصاخبة/ عواء الكينونة الغامضة الهائمة في الشرايين/ لغة الأسرار الرقراقة في الأغوار/ لون مباهج الولادة وقسوة عسرها/ قربان الصرخة الأولى وبيان الأعراس الممهورة بأحمر البكارات رمز العذرية وفرط العاطفة المتوقّدة...
وكأنّ الأخضر خصوبة الربيع بملء زخمه وهباته السّحرية/ شجر البلوط والأرز/ موجز فتنة اشتباك الغابات وزحفها المتشعّب...
وكأنّ الأصفر نشيد السنابل العالي/ هسيس الحقول الطاعنة في الذهب/ بهجة الحصاد وألق البيادر...
في ما الأبيضُ حليبُ الأمومة/ ثلجُ الأعالي/ زبدُ النهر/ بَرَدُ العاصفة/ أوّل الحبّ/ ألقُ بداوةٍ ينزُّ صفاءً ونقاءً مهما طاله تلوّثُ الحضارة...
يليه الأسودُ ليل الأرياف الضالع في الأمان/ جناح الأسرار/ لون الخيمة المطبقة على أرض الرغبات المحتدمة وضراوة الأحلام...
تصطفي المرأة الأطلسيّة رموزها، علاماتها، أشكالها الغريبة من الطبيعة، حيوانا ونباتا أو من الموروث الاجتماعي والثقافي
ذاك نصّ الألوان الدّامغ، يواشِجُهُ موازاةً نصّ الأشكال الهندسية الكبرى: متلازمة المثلث والمعين فضلا عن المربّع... ونصٌّ ثالث صارخ بالرموز والعلامات: حافر الأسد، هيكل السمكة، الرتيلاء، السلحفاة، المنشار الذي يُرادُ به تعرّجات النهر أو الأفعى، الشجرة، المائدة في تشابك مُربّعها بمُعيّنها، الخلالة، الشّعير، الوردة، الظليلة، التمائم، كتيبة الفروسيّة، العقدة والحل...إلخ
أفلاكُ نصوصٍ تتماوج داخل محيط الزّربيّة، أو هي السجادة تسكن داخل رموزها، وإذ تُمعن في خلق علاماتها فهي تستقلّ بذاتها كأمّ النصوص، كأمّ الخرائط المجهولة. شفرة التاريخ المنسيّ. بل هو التاريخ غير الرسميّ، الطقوسيّ والجذري، الممتنع على نمط وعي المدارس وتعالي الأكاديميات. وبذا تكون الزربية كتاب المرأة السري، بيان جرحها المدوّي. صمتها الصارخ، وصرختها الصامتة في آن. دمها المفصدُ نجوما وكواكب ومجرات على النسيج الشبيه بصفحة البحيرة. وإذ تصطفي المرأة الأطلسيّة رموزها، علاماتها، أشكالها الغريبة من الطبيعة، حيوانا ونباتا أو من الموروث الاجتماعي والثقافي، فإنما تفصح عبر اشتباكات الطلاسم عن لغتها الأخرى، ببلاغةٍ ضارية تعلن هويتها المنسيّة، تماهيها الإنساني والطبيعة، كذا التطابق الشعري بين أنوثتها والكون، زد على ذلك الهارمونيا الموسيقية بين زخم مشاعرها وفصول الموسم: بين معدن ألمها المتفجر ألوانا وبين تغوّلات الشتاء. بين فرحها الهادرِ زغاريدَ نهرية وبين زحف الربيع. بين صمتها الذي يواري كنوز اللغة والمعنى وبين اكتساح الخريف. بين فاكهة عريها، بياضها اللامرئي، المحجوب تحت طبقات القمع الصلدة، وبين هسيس الحصاد في مراتع قيظ الصائفة.
بأيّما طريقة نحاول مُتاخمةَ أطلس الزّربية بنوايا قراءتها كنصّ فاتن، مدهش وغامض، أو تفكيك غابة رموزها وما تضمره من معارف ورسائل، لن نفيها حتّى صورةً فوتوغرافية مطابقة لظلّها الوارف، فبالأحرى أن نحاكي نارها في لوحةٍ حداثية.
لذا نكتفي بشرف رفع القبعة لهؤلاء النّسّاجات السّامقات، مردّدين مع الأغنية الأمازيغيّة في المفتتح أعلاه:
"كأنما يعزفن على مغازل خيوطُها من سديم
كأنما ينسِجْنَ الغيوم
إلى حنّاءِ أيديهنّ تهوي النّجوم...".