القدس– بمجرد الدخول إلى الفناءات السحرية المخفية في شارع يافا النابض بالحياة في وسط القدس، بإمكانك مشاهدة عائلات وهي تشعل الشمعة الرابعة في عيد حانوكا اليهودي، بينما يعزف الشباب على الجيتار ويغنون... "لا يمكنك الدخول إلى هذا الفناء"، حذرتني نعومي بلطف؛ فالسكان هنا من اليهود المتشددين ولا يمكننا الدخول إلا إذا التزمنا ببعض القواعد بما في ذلك ارتداء النساء لملابس محتشمة. وأضافت نعومي قائلة: "إن هذا ليس قانونيا، ولكن هذه هي القاعدة هنا ويجب علينا احترامها".
في عيد حانوكا (عيد الأنوار)، أخذتني نعومي وصديقها إبراهيم في جولة عبر الممرات الضيقة لحي نحلاؤوت القديم. تعرف الصديقان على بعضهما بعضا عند دراستهما للفن في مدرسة خاصة بالمدينة المقدسة لمدة ثلاث سنوات.
اليوم، هما في أوائل العشرينات من العمر وكلاهما يخططان لحياتهما المستقبلية بشكل مختلف؛ إذ بدأ إبراهيم عملا إعلاميا عن بعد مع صديق في دولة عربية، بينما لا تزال نعومي في إجازة للبحث عن الذات. لكنها قررت التطوع لمساعدة عائلات ضحايا هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول على تجميع أنفسهم واستعادة ذكرياتهم من خلال تجميع أجزاء وقطع من التذكارات المكسورة في منازلهم.
وبما أن الصديقين يحبان تجربة المأكولات الجديدة، أخذاني لاحقا إلى مطعم أرمني داخل المدينة القديمة المسورة، ولكن بالطبع بعد شراء كعك الحانوكا المقلي بالزيت، والذي يرمز إلى معجزة الزيت الذي احترق لمدة ثمانية أيام بدلا من يوم واحد في الكتب المقدسة اليهودية.
"إذا كان الأمر غير طبيعي، فذلك لأن صداقتنا مليئة بالحب والاحترام بين يهودية إسرائيلية ومسلم فلسطيني، ولد كلاهما في القدس،" يقول إبراهيم، وهو يتنقل بين لغته الأم العربية والعبرية التي تعلمها في الجامعة والحياة.
طالبني الصديقان بعدم الكشف عن هويتيهما؛ إذ أوضحت نعومي أنها "تحرص كثيرا على خصوصيتها"، بينما عبر إبراهيم عن قلقه على سلامته لأن "كثيرا من الإسرائيليين والفلسطينيين أصبحوا متطرفين بسبب هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول والرد العنيف من قبل الجيش الإسرائيلي في غزة بعد ذلك".
اقرأ أيضا: نقاش أخلاقي في ذكرى نكبة فلسطين
ولدى نعومي وإبراهيم وجهة نظر خاصة حول ما يعنيه أن يكون الفلسطيني المسلم والإسرائيلية اليهودية صديقين، إذ شكلت هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي نفذتها "حماس" اختبارا حقيقيا لصداقتهما التي بدأت قبل ثلاث سنوات. ويقول إبراهيم: "إذا استطاعت صداقتنا تجاوز أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فيمكننا تجاوز أي شيء في المستقبل". ويضيف: "كلانا ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وخاصة نعومي بعد أن علمت عن النضال الذي خاضه والدي وأقاربنا. إنها تتعاطف مع قضيتنا وتشعر بنا، وأيضا تعاطفت معها بعد أحداث السابع من أكتوبر".
التعايش "كلمة سخيفة"
دُعيت لتناول طعام الغداء في مكان في القدس يعرف بخط التماس بين الشرق والغرب. ويطلق سكان القدس على هذا الخط، الذي يطل على جزأي المدينة، اسم "الأرض الحرام".
وتعرفت أيضا على مركز "في البيت Feel Beit"، وهو مركز ثقافي مستعد لتقبل الآخرين حتى لو لم يجمع بينهم أي شيء مشترك. وأسس هذا المركز في عام 2019 من قبل نشطاء السلام الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل "الاعتراف بإنسانية" الجميع من خلال الفن والثقافة.
واستمعت هناك إلى أفكار ملهمة من مجموعة متنوعة من الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يقولون إنهم لا يدعون إلى "تطبيع ما هو غير طبيعي"، أو إلى "التعايش"، بل يؤمنون ببساطة بحق الوجود للفلسطينيين والإسرائيليين وضرورة المساواة بين الجميع.
و"بيت" هؤلاء الناس مفتوح أمام الجميع، لكن "المتطرفين من الجانبين سيطردون أنفسهم من المكان ولن يعودوا إليه"، بحسب ما قاله زهدي نجيب، مسؤول دائرة التواصل والإعلام في المؤسسة.
ويضيف نجيب قائلا: "أقصد أننا لسنا مضطرين إلى فرض التعايش في واقع غير طبيعي للغاية، والذي كان موجودا حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول. حتى كلمة السلام تعتبر سطحية للغاية. فقبل أن تبدأ بالحديث عن العيش المشترك، عليك الحديث عن وجود الآخر بثقافته وهويته وجذوره باحترام وتواضع. لا داعي لتقديم تنازلات هنا أو التوصل إلى اتفاق مع الآخر، ولكن يجب عليك أن تحترمه".
إن الواقع اليوم مربك ومتوتر وإشكالي جدا بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. فالتأثير التراكمي للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، فضلا عن أهوال هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، التي أسفرت عن مقتل واختطاف مئات المدنيين الإسرائيليين، شكل تحديا هائلا أمام الصداقات والعلاقات في مجتمعي ناشطي السلام من الإسرائيليين والفلسطينيين.
وقال نجيب: "أنا لا أقبل الوصف الإسرائيلي للتعايش مع العربي الصالح. فأنا أريد أن أعيش مع أناس صالحين من كلا الجانبين".
ويسعى نجيب وأصدقاؤه في مثل هذه الأوقات الصعبة لإيجاد واقع بديل أفضل؛ "نحن لا نسعى لتغيير الواقع الحالي لأن الناس يخافون من التغيير. ربما نكون أقلية في كلا المجتمعين ولكننا عقلانيون وواقعيون".
كيف يمكنك معرفة ما إذا كنت يائسا؟
عند زيارتي لرام الله، لم أستطع الهروب من هذا الإحساس السائد باليأس في الشوارع بين الناس من جميع مناحي الحياة.
السكان في رام الله، مركز السلطة الفلسطينية، يشعرون اليوم بالتوتر الشديد والضعف والغضب. ويعتقد الفلسطينيون الذين تحدثوا معي أن الحرب الإسرائيلية في غزة والغارات المكثفة على بلداتهم في الضفة الغربية المحتلة، تهدف إلى نشر هذا الشعور باليأس وتجريد الفلسطينيين من ثقتهم بأنفسهم وأملهم في مستقبل أفضل.
ويبني الفلسطينيون وجهة نظرهم هذه على اعتقادهم بأن إسرائيل تريد ببساطة إيقافهم عن التحدث عن القضية الفلسطينية باعتبارها مشروعا سياسيا، وإجبارهم على التخلي عن هذه الآيديولوجيا السياسية بشكل نهائي، والتوقف عن استخدام كلمة الاحتلال تدريجيا.
وتقول زينب عابدين، وهي عاملة مقهى تبلغ من العمر 28 عاما: "لكن إسرائيل فشلت منذ تأسيسها على أنقاض فلسطين في هزيمتنا نفسيا".
وعند سؤالي لها عما إذا كانت تعتبر أن "حل الدولتين" هو السبيل الوحيد للخروج من الصراع المستعصي والمأزق المستمر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أجابت بأنها لم تعد تؤيده، وقالت: "كنت أؤيد فكرة العيش معهم في بلدين منفصلين، لكن ليس بعد الآن. إنهم لا يريدون ذلك ولن يسمحوا لنا بالعيش بكرامة، أو بأن يكون لنا بلدنا الخاص. الاحتلال يخنقنا. كيف يمكنني الاعتراف بهم إذا لم يعترفوا هم بي؟".
وبالنسبة للكثير من الفلسطينيين، أصبح "حل الدولتين" حلما بعيد المنال. أما اتفاقات أوسلو، التي أطلقت عملية السلام في عام 1993 والتي تهدف لإقامة دولة فلسطينية، فإنها تكاد تكون ذكرى باهتة وحتى غير معروفة خاصة بين الأجيال الصغيرة.
وتصف إسرائيل احتلالها للضفة الغربية منذ حرب الأيام الستة عام 1967 بـ"الاحتلال المؤقت". ومع ذلك، استمر هذا الاحتلال المؤقت لأكثر من نصف قرن. ووفقا لما قاله نشطاء السلام الفلسطينيون والإسرائيليون، يمكن النظر إلى هذا الوضع "المؤقت" باعتباره كذبة مساوية للأكاذيب السياسية الكبرى الأخرى المستخدمة في صراعات مختلفة.
كما أصبحت جماعات المستوطنين صريحة وجريئة للغاية في إعلان نواياها للاستيلاء على المزيد من الأراضي، حيث إن الجيش الإسرائيلي مشغول بأماكن أخرى في غزة. وبات من الصعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، إخراج الكثير من المستوطنين الإسرائيليين من الضفة حال التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بين الطرفين. ويبلغ عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية حوالي 700 ألف مستوطن، وهو عدد ضخم للغاية.
وتعتبر الأمم المتحدة والحكومات الأجنبية وجود المستوطنات أمرا غير قانوني. وتقول إسرائيل إن أي حديث عن ذلك له دوافع سياسية، وترفض تماما أي محاولة لتصوير "الجاليات اليهودية" في الضفة الغربية المحتلة على أنها شكل جديد من أشكال الاستعمار. كما يعتبر السياسيون اليمينيون والمتطرفون الإسرائيليون تلك المنطقة "منطقة متنازع عليها".
ولكن هذه المستوطنات تشكل بالفعل تهديدا لسلامة أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية.
مستوطنة في رام الله
في الضفة الغربية المحتلة من قبل إسرائيل، هناك نوعان من المستوطنات: تلك التي أنشأها متدينون وتلك التي استوطنها إسرائيليون تم إغراؤهم لإعادة توطينهم في هذه المنازل بسبب حوافز الدولة، بما في ذلك التخفيضات الضريبية، وتكلفة المعيشة المنخفضة مقارنة بتكلفة المدن الإسرائيلية المكلفة جدا مثل تل أبيب.
وعلى بُعد خمس دقائق بالسيارة من المقهى الذي التقيت فيه بزينب في رام الله، ذهبت إلى حدود المستوطنة المسوّرة "بيت إيل"، التي أُسست عام 1977 من قبل المجموعة الصهيونية الدينية "يشيفات ميركاز هاراف" في شمال رام الله، قلب الدولة الفلسطينية المرتجاة.
ويرى كثير من الإسرائيليين العلمانيين والليبراليين أن الصهاينة المتدينين والأحزاب الدينية يعملون بشكل جاد لتحويل إسرائيل إلى دولة دينية.
إن العلاقة بين الاتجاهين الرئيسين في إسرائيل، الحريديم والحسديم (الأرثوذكس المتشددين والمتدينيين)، من جانب، والعلمانية، من جانب آخر، أصبحت بالفعل على المحك، وظهرت الهوّة واضحة في التحركات الاحتجاجية الأخيرة ضد حكومة بنيامين نتنياهو وشركائه في الائتلاف اليميني المتطرف منذ بداية عام 2023.
اقرأ أيضا: المنظمات اليهودية المتطرفة...هل تُصنف ميليشيات؟
وخارج الكنيست في القدس الغربية، قابلت أحد المحتجين الذي شارك في المظاهرات ضد نتنياهو قبل وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
يقول غاي ميتزغر إنه كان ينبغي على نتنياهو أن يستقيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول فورا لأنه فشل في توفير الأمان والسلام للإسرائيليين في الجنوب.
وقال ميتزغر، الذي كان يشارك في معسكر اعتصام لعائلات الضحايا والرهائن: "هذه أزمة كبيرة. يستقيل رؤساء الوزراء في بلدان أخرى بسبب مشاكل أقل خطورة من مشاكلنا؛ ففي المملكة المتحدة، استقال بوريس جونسون بسبب حفل أقامه أثناء انتشار جائحة كورونا، في حين أن رئيس وزرائنا يتردد في الاستقالة والاعتراف بمسؤوليته عن مجزرة السابع من أكتوبر/تشرين الأول".
وكانت "حماس" قد أطلقت سراح والدته تامار ميتزغر، البالغة من العمر 78 عاما، كجزء من صفقة تبادل للرهائن في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع إسرائيل، بينما لا يزال والده، البالغ من العمر 80 عاما، محتجزا في غزة حتى لحظة كتابة هذا المقال.
وأضاف ميتزغر: "كان والدي ووالدتي يساعدان الفلسطينيين في الحصول على تصاريح لتلقي العلاج في المستشفيات الإسرائيلية. وكانوا ينظمون أعمالا خيرية لإرسال الطعام والملابس إلى سكان غزة. ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كسر قلوبنا. لماذا؟ أنا واثق من أن ما حدث هو عمل شرير قام به أشخاص غير متعلمين وجاهلون من غزة، ناهيك عن أنهم فعلوا ذلك بأشخاص ضعفاء وواهنين مثل والدي ووالدتي".
ميتزغر، البالغ من العمر 53 عاما، ليس ناشط سلام كوالديه. إنه قاطع ألماس يعيش في مدينة الخضيرة الإسرائيلية، على بعد حوالي 50 كيلومترا إلى الشمال من حيفا.
وعند سؤاله عن رأيه فيما يتعلق بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، أجاب أنه كان يجب أن يكون للفلسطينيين دولتهم منذ فترة طويلة.
وأضاف: "نحن نفقد كثيرا من الأشخاص بسبب هذه المستوطنات والاحتلال. لا جدوى من ذلك. في النهاية، سيعيدون الأراضي المحتلة إلى الفلسطينيين، كما حدث في سيناء وغزة. هذا هو الحل الوحيد. يجب أن لا نستسلم لليمين المتطرف في إسرائيل، فهم خطرون للغاية، ليس فقط على إسرائيل، ولكن على المنطقة بأكملها".
"من الأفضل أن يبقى الأمر على ما هو عليه"
خلال زيارتي إلى القدس، حصل اليمين اليهودي المتطرف على إذن من الشرطة لتنظيم مظاهرة في الحي المسلم بالبلدة القديمة. وهذا النوع من المظاهرات يشكل مصدرا مستمرا للاستفزاز والغضب والعنف المحتمل في القدس الشرقية المحتلة.
لكن التجمع لم ينجح في نهاية المطاف، إذ أصر المتظاهرون على رفع لافتات عنصرية تحرض على العنف. فصادرت الشرطة الإسرائيلية بعض اللافتات ومنعت قرابة 40 متظاهرا من المضي قدما. لكن ذلك لم يمنعهم من الهتاف بكلمات مسيئة للغاية ضد العرب والمطالبة باستعادة جبل الهيكل المقدس بالكامل، والذي يُطلق عليه المسلمون اسم الحرم الشريف الذي يضم ثالث أقدس موقع إسلامي، وهو المسجد الأقصى.
وكان أحد الشعارات الرئيسة لمنظمي المظاهرة هو: "لن ننتصر في الحرب في غزة فقط".
ولست بحاجة للذهاب خارج القدس لرؤية جدار الفصل الإسرائيلي بشكل مباشر؛ إذ يقع جزء منه على بعد عشر دقائق فقط، أو أقل، بالسيارة عن الحي الأرمني في المدينة القديمة.
"من الأفضل أن يبقى الأمر على ما هو عليه"، هذا ما قالته لي وزيرة الداخلية الإسرائيلية السابقة أيلت شاكيد في مقابلة أجريتها معها في عام 2021.
تلخص هذه العبارة استراتيجية إدارة الصراع، والتي يمكن أن يرمز لها بالجدار العازل. وعبر الحكومات المتعاقبة في إسرائيل، والتي غالبا ما كانت بزعامة نتنياهو الذي قاد الكثير من الحكومات الائتلافية لأكثر من 16 عاما، كان هناك سياسيون مؤثرون جدا، وأعضاء في الكنيست ووزراء حاليون وسابقون، يرغبون جميعا في إدارة الصراع، لا في حله.
ولكن، وفي ظل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، والرد الإسرائيلي في غزة، هل يمكن لأي شخص إدارة هذا الصراع إلى ما لا نهاية؟ أم أنهم يدورون في حلقات مفرغة؟ وهل أصبح "حل الدولتين" مصطلحا مرادفا لفشل دبلوماسي كبير؟
يقول المحلل السياسي والباحث الفلسطيني جهاد حرب، الذي التقيته في رام الله: "إسرائيل يمكنها حل النزاع إذا أرادت... نبهت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول المجتمع الدولي إلى أنه لم يعد بإمكانه وضع مثل هذه القضية المتفجرة على الرف. ولا يمكنهم تجاوز القضية الفلسطينية بعد الآن".