في تقييم التموضع الغربي تجاه إسرائيل وفلسطين

دعوة لوجهات نظر واستراتيجيات جديدة

AFP
AFP
امرأة تحمل لافتة تصور العلم الفلسطيني ومكتوب عليها "إسبانيا تتضامن مع فلسطين" خلال مظاهرة في مدريد، في 10 ديسمبر 2023

في تقييم التموضع الغربي تجاه إسرائيل وفلسطين

سلطت الحرب الجارية في غزة الضوء على الفجوة المتزايدة الاتساع بين المجتمعات العربية وحكوماتهم من جهة، والدول الغربية من جهة أخرى، وأبرزت التناقض الملحوظ في الخطاب الغربي فيما يتعلق بهذا الصراع؛ ففي البداية، وقفت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي خلف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، قبل أن يشيرا لاحقا بشكل خجول للمظلومية الفلسطينية.

وعلى الرغم من كون هذا التحول قصير الأمد وعابرا، فهو يشير إلى إمكانية اتباع استراتيجية أكثر توازنا في الغرب؛ استراتيجية تعطي الأولوية للحفاظ على الأرواح، والمساواة في الحقوق، والسلم المستدام.

لم تكن العملية العسكرية الإسرائيلية المكثفة وغير المتناسبة على غزة بعد هجوم حماس سببا في تحفيز المجتمعات العربية والإسلامية فحسب، بل إنها خلقت أيضا حركة عالمية متنامية تنادي بوضع حد لمعاناة الفلسطينيين. ويتجلى ذلك من خلال التعبئة الجماهيرية المتصاعدة في الشرق الأوسط، وانتشارها عالميا، حيث شهدت مدن كبرى مثل عمّان وبغداد وبيروت والقاهرة والدوحة والكويت والمنامة ومسقط والرباط، بالإضافة إلى مدن أخرى، احتجاجات كبيرة ضد الإجراءات الإسرائيلية والاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية. هذا الغضب الشعبي العربي يذكرنا بحدثين بالغي الأهمية: الربيع العربي والانتفاضة الثانية، عندما أدت المظلوميات التي طال أمدها إلى دعوات واسعة النطاق للتغيير.

حدثت نقطة التحول الأساسية في أعقاب قصف المستشفى الأهلي في غزة والغزو البري الذي تلا ذلك. وقد حفز هذا الحدث كثيرا من الحكومات العربية على تكثيف خطاباتها وأفعالها، بما يتماشى بشكل أوثق مع السخط المتنامي في الشارع العربي. وتضمنت الخطوات إدانات واضحة، والدفع بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الوقف الفوري لإطلاق النار ووصول مساعدات غير مشروطة لغزة، بالإضافة إلى مواقف دبلوماسية شملت سحب السفراء أو التلويح بذلك، والقيام بجولة في عواصم العالم لتعزيز موقف عربي إسلامي موحد بشأن إنهاء الأعمال العدائية، والإسراع بالتوصل إلى هدنة إنسانية من خلال الوساطة القطرية المصرية. ومؤخرا، قدمت الإمارات مشروع قرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.

لعب جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، دور معالجة الأضرار، ملمحا إلى التكافؤ الأخلاقي بين الشعبين الأوكراني والفلسطيني والحاجة إلى إبقاء المدنيين والخدمات الأساسية لكليهما في مأمن. 

الخطاب الغربي المتغير

وفي أعقاب التصعيد الذي حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول، سارع القادة الغربيون إلى إلقاء اللوم على "حماس" والتأكيد على دعمهم لإسرائيل.

وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوروبية في بيان مشترك موقفهم الموحد في دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وبحلول 11 أكتوبر/تشرين الأول، ومع وصول عدد القتلى في غزة إلى 950 شخصا، أصرّ الرئيس بايدن على موقفه الداعم لتل أبيب، مشيرا إلى أنه "لا يوجد مبرر للإرهاب. حماس لا تدافع عن حق الشعب الفلسطيني المتساوي في الكرامة وتقرير المصير". ولكنه تجاهل الخسائر في أرواح الفلسطينيين تجاهلا تاما.

وعاد إلى الظهور مرة أخرى منشور يعود إلى أكتوبر/تشرين الأول 2022 بقلم أورسولا فون ديرلاين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، قالت فيه إن "هجمات روسيا ضد البنية التحتية المدنية (في أوكرانيا)... وقطع الكهرباء... هي أعمال إرهابية خالصة... وجرائم حرب". انتشرت هذه الرسالة على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي، وأدى ذلك إلى انتقادات للاتحاد الأوروبي لعدم إلزام إسرائيل بنفس المعايير فيما يتعلق بأفعالها في غزة. وفي الفترة من 7 إلى 14 أكتوبر/تشرين الأول، نشرت رئيسة الاتحاد الأوروبي 15 منشورا مؤيدا لإسرائيل على منصة إكس (تويتر سابقاً). ولم يتم ذكر المساعدات الإنسانية لغزة في خطاباتها على ذات المنصة إلا في 14 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد أسبوع من تصاعد النزاع، دون الاعتراف مباشرة بالقتلى الفلسطينيين. لقد تجاهلت دوائر السياسة الغربية الرئيسة التضامن الواسع النطاق لفلسطين على مستوى العالم، كما يتضح من تعاملها الغير مكترث والمجزأ للمراحل الأولى من الصراع الحالي.

AFP
مغاربة يتظاهرون في الرباط يوم 10 ديسمبر 2023 تضامنا مع الفلسطينيين

ولكن مع تزايد خطورة العواقب الإنسانية المترتبة على القصف الإسرائيلي، بدأ المسؤولون الغربيون في تعديل رسائلهم. ولعب جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، دور معالجة الأضرار، ملمحا إلى التكافؤ الأخلاقي بين الشعبين الأوكراني والفلسطيني والحاجة إلى إبقاء المدنيين والخدمات الأساسية لكليهما في مأمن.

ودخلت فلسطين أخيرا في قاموس رئيسة المفوضية الأوروبية حين أعلنت في 15 أكتوبر/تشرين الأول، في بيان لها "مضاعفة مساعداتنا الإنسانية للفلسطينيين ثلاث مرات"، ولكن دون الاعتراف بخسارة آلاف الأرواح الفلسطينية كما كان الحال بالنسبة للضحايا الإسرائيليين أو ضحيتي الإرهاب في بروكسل في الوقت نفسه. وفي اليوم نفسه، تواصل بايدن مع الرئيس عباس، وأكد من جديد على "حق الشعب الفلسطيني في الكرامة وتقرير المصير"، مشيرا إلى المساعدات الإنسانية. ولكن حديثه لم يتطرق إلى الاعتراف بالخسائر في أرواح الفلسطينيين. لقد كان الموقف المؤيد لإسرائيل بين الحكومات الغربية دائما ثابتا لا يتزعزع. ولم تفلح موجة خطاباتهم التي تذكر الفلسطينيين في تغيير ذلك.

يكشف هذا النهج المتناقض عن محاولات صناع السياسة الغربيين تطوير نهج يعترف بالحق الفلسطيني من جهة ويحافظ على دعمهم الثابت لإسرائيل من جهة أخرى. لكن كثيرا ما بدت هذه المقاربة غير قابلة للتوفيق ومربكة للكثير من المسؤولين الغربيين. ولا تزال السياسة المتوازنة الحاسمة لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين غائبة.

وصل الاحتلال المستمر والمذابح وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم إلى مستويات غير مسبوقة.

السياسات المتوازنة ليست مستحيلة

ومع ذلك، من الممكن التوصل إلى استراتيجية أكثر توازنا تجاه الصراع، خاصة وأن التطبيع مع إسرائيل الموجه من الخارج العربي إلى الداخل الفلسطيني لا يمكن أن يعوض الفوائد المرجحة للنهج المعتمد على مقاربة الداخل إلى الخارج الذي كان العمود الفقري التقليدي لعملية السلام. ولذلك، يبقى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مع توفير الضمانات لتعزيز حل الدولتين ممكنا إذا ما وافقت عليه جميع الأطراف. لكن يبقى هذا الأمر مرهوناً بحلحلة الموقف الإسرائيلي الذي يبدو متصلباً قولا وفعلا.

وسواء استمر حل الدولتين أو حلت صيغة أخرى محله، فإن النهج القائم على الحقوق يشكل قناة ضرورية للتسوية النهائية. وبما أن إسرائيل هي الطرف الأقوى، فإن المسؤولية تقع على عاتقها في ممارسة القيادة المسؤولة والتسوية للوصول إلى مرحلة مقبولة من الطرفين. ولكننا بعيدون كل البعد عن هذا الإدراك، خاصة الآن مع توارد التقارير عن وقوع أعمال إبادة جماعية، واعتبار بعض أعضاء الائتلاف الحاكم الحالي في إسرائيل أن الفلسطينيين "حيوانات بشرية".

AFP
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ووزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان في واشنطن العاصمة، في 1 نوفمبر 2023

إن إطلاق عملية سلام حقيقية أمر بالغ الأهمية للأمن الإقليمي والعالمي، خاصة في ظل تراجع تأثير الولايات المتحدة في المنطقة، وعجز اللجنة الرباعية عن اقتراح بديل قابل للتطبيق، والموارد المحدودة التي يتمتع بها الوسطاء العرب التقليديون مثل مصر والأردن، كل هذا يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى إدخال ديناميكية جديدة في مفاوضات السلام.

وهنا يكمن أهمية دور المملكة العربية السعودية. فهي واجهة القرار العربي منذ عام 2002 عندما أطلقت مبادرة السلام العربية. وبالرغم أن المبادرة تحوي خطوط عريضة، إلا أنها تظل المنطلق الأكثر واقعية لتحريك العملية إلى الأمام، خاصة في ضوء رغبة إسرائيل الملحة في أن تحظى بقبول المنطقة ككل.

قبل التصعيد في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت المناقشات التي شملت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل تمضي قدما. ولكن لتعزيز هذه المحادثات، لا بد من تحويلها إلى حوار رباعي من خلال إشراك ممثلين فلسطينيين من جميع الفصائل. وسوف يدمج هذا النهج استراتيجيات موجهة من الداخل إلى الخارج والعكس، مما قد يؤدي إلى كسر الجمود الذي طال أمده في عملية السلام. وينبغي استكمال هذه الجهود بطريقة أكثر توازنا للصراع، وخاصة في الخطاب الغربي.

لقد بلغ عنف الاحتلال المستمر والمذابح وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم إلى مستويات غير مسبوقة. الوضع الراهن غير مستدام. والمنطقة تستحق السلام والازدهار، وهي أشياء غير مستحيلة إذا التزمت جميع الأطراف بهذه الرؤية. إن إدراك الحاجة إلى خطاب وسياسات وجهات فاعلة جديدة ــ والعمل على أساسها، من شأنه أن يكسر الجمود ويمهد الطريق نحو حلول مستدامة في المستقبل.

font change

مقالات ذات صلة