سنّة لبنان في متاهة "نكبات"https://www.majalla.com/node/306331/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B3%D9%86%D9%91%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AA%D8%A7%D9%87%D8%A9-%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A7%D8%AA
الشائع راهنا أن سنّة لبنان يعيشون اليوم أسوأ أزمنتهم، فيما يواصل لبنان تصدعه السياسي وتصدع مؤسسات دولته وانهياره المالي والاقتصادي. ناهيك عن استرسال تمزق الأواصر والروابط بين جماعاته الطائفية المتنابذة، حتى لم يعد من جامع أو ناظم "وطني" لتطلعاتها وخياراتها وولاءاتها السياسية والأمنية المتضاربة.
والحق أن الجماعات اللبنانية صنعت لانتمائها إلى لبنان ولأدوارها فيه سرديات وتوجهات متباينة، منذ نشوء الدولة اللبنانية المعاصرة الهشة (1920). وقبل اتفاق الطائف (1989) الذي أوقف الحروب الأهلية الإقليمية الملبننة (1975-1990) شاعت مصطلحات صارخة في تعبيرها عن تلك التباينات: المارونية السياسية التي صاغها الراحل منح الصلح (1928- 2014) في بدايات الحرب، ثم السنيّة السياسية، والشيعية السياسية، اللتين تكرستا في الإعلام والحياة السياسية العامة بعد الطائف.
الموارنة وكثيرون سواهم يرون أنهم رواد نشأة "الفكرة اللبنانية" وتأسيس الكيان السياسي والدولة اللبنانيين المستقلين (عن البلدان العربية والعروبة، وتوقا إلى صلة حميمة بالغرب، ضمنيا). وترى السنيّة السياسية نفسها ويرى آخرون سواها أنها امتداد للعرب والعروبة في لبنان، وخصوصا في حقبتها الناصرية المتأججة (1956-1967) وفي حقبتها الفلسطينية التي مثلتها منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات (1968-1982). وكثيرا ما يقال إن سنّة لبنان شعروا باليتم لحظة وفاة جمال عبدالناصر (1970). ولكنهم سرعان ما عوضوا يتمهم ذاك ببروز حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة التي راح يقال إنها "جيش السنّة في لبنان". لكن ذلك اليتم السنّي سرعان ما عاد أشد مضاضة على أهله بعد ترحيل الجيش الإسرائيلي ياسر عرفات من بيروت صيف 1982. وهذا بشهادة كثيرين يرون أن السنّة ليسوا عصبية مقاتلة، مقارنة بالمارونية في عهد "القوات اللبنانية" ومؤسسها بشير الجميل (1947-1982) في خضم حرب السنتين (1975-1976). وكذلك مقارنة بحزب الحرب الدائمة، "حزب الله" الشيعي الناشئ رسميا سنة 1985. واستمر يتم السنّة راعفا حتى اتفاق الطائف، حين خلصتهم منه الزعامة السياسية التي بناها رفيق الحريري في زمن السلم اللبناني بوصاية سورية، إلى أن راح الحريري يتملص من تلك الوصاية، فاغتيل سنه 2005.
لماذا يعتبر السنّة اللبنانيون ويشعرون أنهم وحدهم بين الجماعات الأخرى يعيشون أسوأ أيامهم؟
أما الشيعية السياسية فولدت مع نشأة "حركة المحرومين" (1974) التي أسسها الإمام الشيعي موسى الصدر مطالبا بحقوق الشيعة المهمشين في الدولة اللبنانية. وأسس الصدر منظمة عسكرية لمحروميه برعاية نظام حافظ الأسد السوري، مهمتها التصدي للاعتداءات الإسرائيلية على قرى الجنوب اللبناني الشيعية، ولجم سيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة التي كان يلتحق بها الشبان والفتيان الشيعة في تلك القرى وفي ضواحي بيروت التي سميت آنذاك "أحزمة البؤس". ومن رحم "أمل" ولد "حزب الله- المقاومة الإسلامية في لبنان"، برعاية إيرانية خمينية-سورية أسدية مشتركة، بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان ووصوله إلى بيروت.
الحريرية و"حزب الله"
في ظل الأوضاع اللبنانية والعربية المشرقية الراهنة- وهي لم يسبق أن بلغت هذه الحال من تدمير دول معتلة وديكتاتورية، وقد زالت تقريبا، ومجتمعات دمرتها حروب أهلية عبثية، وهاهي إسرائيل تدمر غزة وتبيد ألوفا من سكانها وتجتاحها مشردة 2,5 مليون فلسطيني في "نكبة" جديدة، وتهدد لبنان "حزب الله" بحرب أشد ضراوة من حرب يوليو/تموز 2006- في خضم هذه الأوضاع السوداء، لماذا يعتبر السنّة اللبنانيون ويشعرون أنهم وحدهم بين الجماعات الأخرى يعيشون أسوأ أيامهم، وما في حقيقة مشاعرهم وكيف ينظرون إلى أنفسهم ويعبرون عن تلك المشاعر؟
في هذا التحقيق الاستقصائي المعتمد على شهادات أشخاص من فئات وبيئات وطبقات وأجيال سنيّة بيروتية متباينة، لا بد من الاستهلال بالإشارة إلى صعوبة الإحاطة الدقيقة بكيفية صناعة رأي عام ومشاعر عامة وشيوعها وهيمنتها على جماعة معينة في مثل هذه الأحوال التي تبعث سوداويتها على التيه والهذيان.
وفي الاستطلاعات والشهادات التي جمعتها "المجلة" من بيارتة، نماذج من الرؤى السنيّة السائدة، المشترك بينها إجماع على سوء الأحوال، وتحميل رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري المسؤولية الكبرى عنها، وقبله "حزب الله". وهناك أيضا أسباب أخرى ترتبط بظروف خارجية، إقليمية ودولية، وصولا إلى استحضار عالم الغيب تفسيرا لما يسميه البعض "كارثة حلت بالسنّة". هذا رغم أن معظم من أدلوا بشهاداتهم تلقوا أو يتلقون تعليما جامعيا.
"التحرير" كان انسحابا إسرائيليا من الجنوب أكثر منه تحريرا بفعل المقاومة، رغم مساهمتها فيه
وصمة "المتاولة" وشرف "التحرير"
روى بيروتي مُسِنٌ من حي البسطة، وهو جالس على رصيف يدخن نرجيلته أمام بيته العتيق، أن السنّة كانوا يطلقون على الشيعة اللبنانيين الجنوبيين تسمية "المتاولة" قبل ولادة "حزب الله" وتزايد قوته وشهرته، متسائلا: كيف لحزب خفي لا يظهر منه سوى نواب ووزراء يعينهم أمينه العام المختبئ منذ نحو 20 سنة، وتحول صورة تلفزيونية مثيرة، أن يبلغ ما بلغه من القوة الغامضة وبث الرعب في الناس، لولا هذا الهوان والرضوخ لسلطان ما يدعيه ويبثه فيهم؟!
وأضاف البيروتي البسطاوي أن تسمية "المتاولة" كانت تصم شيعة الجنوب بالتخلف والضِّعة والهوان، ولا تشمل البعلبكيين العشائريين والمشهورين بتبادل الثارات العشائرية. ثم اقتصرت تسمية "المتاولة" على حركة "أمل"، التي نفر منها البيارتة بعد اقتحامها بيروت وتصفية تنظيم "المرابطون" السنّي، ومباشرتها الحرب على المخيمات الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي.
وحسب رواية بيروتي آخر (60 سنّة، خريج الجامعة الأميركية، وكان في شبابه في "كتيبة فتح الطلابية") أن البيارتة السنّة استحسنوا انصراف "حزب الله" عن "الفتنة" واقترابه من "لاهوت التحرير"، أي مقاومته الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
وكانت لحظة اندفاع المزاج السنّي مع "حزب الله"، حين أبرم رفيق الحريري "تفاهم أبريل/نيسان" 1996 إثر عملية "عناقيد الغضب" الإسرائيلية. ثم في لحظة ما سمي "التحرير" أواخر مايو/أيار من سنّة 2000. وهنا استنجد الراوي بمثل شعبي بيروتي سائر: "أكْلَة وانسمت عليك، كول وبحلق عينيك"، أي إذا دُعيت إلى وليمة، تناول الأكل بشراهة وجسارة وبلا خجل. وهذا لتشخيص سلوك "حزب الله" ونهمه في استثمار "التحرير" والتأييد الذي حظي به جراء مقاومته الاحتلال الإسرائيلي. وحسب الراوي نفسه، فإن "التحرير" كان انسحابا إسرائيليا من الجنوب أكثر منه تحريرا بفعل المقاومة، رغم مساهمتها فيه. وقد احتكرها "حزب الله" وطوّبها باسمه وجعلها مميزة. وأشار الراوي نفسه إلى أن "الحزب" عينه راح يمنّن اللبنانيين والعرب جميعا قائلا لهم ليل نهار: أنا شرفكم وكرامتكم، ولولاي ولولا إيران الخمينية لعشتم أبد الدهر محتلين في الذل والهوان، بلا شرف ولا كرامة.
وكان أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله قد وقف بعد التحرير خطيبا في قاعة جمال عبدالناصر بجامعة بيروت العربية في حي الطريق الجديد السنّي، ووقفت تحييه- حسب إمام قديم لمسجد الحوري في مبنى الجامعة نفسها- عمائم سنيّة وتبايعه قائدا للتحرير، خليفة لجمال عبدالناصر. وتلت ذلك زيارات وتبريكات سنيّة لضاحية بيروت الجنوبية معقل "حزب الله"، الذي أولى زائريه ومباركي انتصار حزبه كل الحرص والاهتمام والرعاية والمد التمويني والمالي. حتى إن واحدة من أهم الجمعيات البيروتية "المرابطة" (نسبة إلى تنظيم "المرابطون" السنّي الذي اجتثته حركة "أمل") لبى رئيسها دعوة إلى زيارة إيران، ضمن وفود كثيرة، فلسطينية ولبنانية استبدلت ولاءها لمنظمة التحرير واتفاق أوسلو بموالاة إيران وسوريا.
خرج سنّة لبنان من المشاركة الفعلية في الحكم، وفقدوا قيادة فاعلة يصطفون خلفها، كحال باقي الطوائف
"نكبات" السنّة
حوادث كثيرة سريعة وعاصفة تتالت بعد تحرير جنوب لبنان سنة 2000. وهي لا تزال حية في ذاكرة جمهور بيروتي عريض، ويعتبرها إمام مسجد الحوري "نكبات حلت بالسنّة العرب". والأرجح أن الأمام المتقاعد استل هذا المصطلح (السنّة العرب، غير الشائع في لبنان) مما يسمعه أو يقرأه عن أخبار العراق، حيث صار يقال، بعد سقوط نظام صدام حسين: عرب السنّة، والشيعة العرب. وذكر الإمام إياه تلك "النكبات" على النحو التالي: احتلال أميركا العراق (2003). اغتيال "حزب الله" رفيق الحريري (2005) حسب قرار المحكمة الدولية. وحرب "لو كنت أعلم"، حسب تسمية الإمام السنّي المتقاعد أي حرب يوليو/تموز 2006 بين إسرائيل و"حزب الله" الذي خرج أمينه العام من مخبئه بعدها قائلا للبنانيين وجمهوره إنه ما كان ليقدم على تلك الحرب المدمرة لو علم مسبقا أن إسرائيل ستستشرس فيها وتفعل ما فعلته.
وحسب "الفتحاوي" العتيق وخريج الجامعة الأميركية، قطف نصرالله وجماهير طائفته عوائد تلك الحرب، المالية والمعنوية والإعلامية، فورث دور النظام السوري في لبنان. أضاف الراوي إياه إلى "نكبات" سنّة لبنان، سلسلة الاغتيالات التي حصدت كثرة من رموز حركة 14 مارس/آذار، واجتياح الثنائي الشيعي بيروت في 7 مايو/أيار 2008.
بعد هذه العاصفة المتتالية من الحوادث بدأ- وفق بيروتي آخر مؤيد لرفيق الحريري وناقم على ابنه ووريثه- العد التنازلي لـ"الزهو السنّي" الذي رافق مشروع رفيق الحريري الأب طوال أكثر من 15 عاما، ليعيش سنّة لبنان بعده في حال ركود وترقب، قبل أن تحل عليهم لحظة أمل، أثناء ما سمي الربيع العربي، وخصوصا الحلقة السورية منه. لكن ذلك الأمل- حسب الراوي نفسه- تكشف عن وهم، أدى إلى إحباط تجلى بنأي وريث الحريرية، سعد الحريري، بنفسه عن السياسة وذهابه في جولات استجمام، عاد منها متوسلا إيصال سليمان فرنجيه إلى رئاسة الجمهورية. لكنه سرعان ما رضخ لاستبداله بميشال عون الذي- مع حليفه وراعيه "حزب الله"- قضما لحمه الطري ورمياه عظمة جرداء، ومفلسا ليس أمامه سوى الهرب والتنصل من مسؤولياته حيال ناخبيه وداعميه الإقليميين.
وهكذا أنهى سعد الحريري رواية الحريرية السياسية في لبنان، تاركا السنّة لشعورهم المتجدد باليتم والهوان حيال صعود الشيعية السياسية وقوتها العسكرية، وهيمنتها على الحياة السياسية في لبنان وإيصاله إلى أقاصي الطائفية والإفلاس السياسي والمالي والاقتصادي.
ويرى بيروتي (55 سنة، صاحب دكان صغير قرب جامع محلة برج أبي حيدر التابع لجمعية المشاريع الخيرية "الأحباش") أن هذه الجماعة وحدها بقيت على ولائها لحزب ولي الفقيه الإيراني ولنظام بشار الأسد. أما مواقف "الجماعة الإسلامية" (إخوان لبنان) فتذبذبت بين مراعاة النفور السنّي من "حزب الله" وحفاظها على علاقة به. وأضاف الراوي أن "الحزب" عينه استثمر في سنّة الأطراف الذين انطوى بعضهم فيما يسمى "سرايا المقاومة"، وهي مجموعات شبابية من فئات شعبية متواضعة في الأحياء والقرى السنيّة.
وخرج سنّة لبنان من المشاركة الفعلية في الحكم، وفقدوا قيادة فاعلة يصطفون خلفها، كحال باقي الطوائف اللبنانية. ووصل الخلل إلى داخل مؤسساتهم الخدماتية من تعليم واستشفاء وسواه من اتحادات وجمعيات عائلية وبلديات. ولعل نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة تعبر عن ذلك أوضح تعبير، حسب البيروتي الفتحاوي العتيق، الذي قال أيضا: مع "طوفان" غزة الأخير، وبعد يومي "زهو الانتصار"، بدأت تترد في الوسط السنّي أسئلة تتوجه إلى "حزب الله" ساخرة من مقولة "وحدة الساحات" ومن انضباطه بـ"قواعد الاشتباك". وأضاف متسائلا: لكن ما الجدوى من السخرية من هذه المأساة- الملهاة التي يتخبط فيها السنّة ولبنان كله، فيما أدت عملية "حماس" المفاجئة إلى طوفان غزة على بحر من الدماء؟
حال اللبنانيين العاديين عامة اليوم: تمني الهروب من لبنان، أو الموت الرحيم شفاء من التعاسة المظلمة
"ادعي لي أن أموت"
روت امرأة بيروتية- 50 سنّة، مطلقة وتعمل خبيرة وباحثة مستقلة في منظمات غير حكومية، وتُكثِر من التذمر من حياتها في بيروت وترغب في الرحيل عنها- روت أنها في العاشرة صباحا كانت متجهة في سيارتها إلى بيت أهلها المسنين العاجزين في محلة الطيونة بطرف ضاحية بيروت الجنوبية. صادفت سيارة متوقفة وسط شارع، فاضطرت إلى الوقوف خلفها منتظرة. ولما طال وقوف السيارة أمامها، ترجّلت من سيارتها مستطلعة. فجأة خرج من السيارة المتوقفة رجل شاهرا مسدسا، وصوبه إلى سائق السيارة وأطلق رصاصات عدة.
روعها المشهد، فانهارت وأغمي عليها. وعندما استيقظت بعد وقت صعب عليها تقديره، كانت ترتجف في سيارتها التي علمت أن رجلا من المتحلقين حولها قادها وركنها إلى جانب الطريق. وروت أنها فيما يشبه هذيان راحت تردد مرتجفة: "لا، لا لن أجيئ بعد اليوم إلى الضاحية... لو يموت والداي الآن، وأهاجر... إلى أستراليا". لم يهدئ المتحلقون حولها من روعها، بل راح أحدهم يقول لها مؤنبا: "احترمي نفسك يا حرمة. أنت هون بالضاحية. الضاحية على راسك وراس غيرك".
وروت طالبة في الجامعة الأميركية في بيروت، فقالت: كنت في سيارة أجرة متجهة بي من الجامعة في رأس بيروت إلى منزلي في محلة بربور البيروتية. كان الوقت في أول الليل، فرجوت السائق الذي علمت من لهجته أنه بيروتي، أن يدخل شارعا فرعيا معتما ليوصلني إلى أمام منزلي، ففعل طالبا مني أن أدعو له وأتضرع إلى الله علّه يستجيب دعوتي لأنني محجبة ومؤمنة. ماذا يتمنى، كي أطلب من الله أن يحققه له، سألته، فقال: ادعي لي أن أموت.
هاتان قصتان- شهادتان قصويان في تعبيرهما ليس عن حال السنّة في لبنان، بل عن حال اللبنانيين العاديين عامة اليوم؛ تمني الهروب من لبنان، أو الموت الرحيم شفاء من التعاسة المظلمة التي تخيم على البلاد.
وضعية السنّة لا يحسِّنها تطبيق "اتفاق الطائف"، لأن "حزب الله" وأتباعه العونيين يستسهلون الارتداد عليه
عمر المدور (خريج علوم إسلامية)
الشيعة في مرآة سنيّة
عمر المدور (53 سنة، سنّي بيروتي، موظف في شركة خاصة، وخريج علوم إسلامية من جامعة بيروتية خاصة) قال إن حالة سنّة لبنان "بالويل". وأضاف: "صحيح أنهم متعلمون في معظمهم، لكن تنقصهم الرؤية السياسية". وهو يرى أن انتشار الجماعتين العصبيتين، المارونية والشيعية، في مناطق لبنانية عدة (الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية للشيعة، وجبل لبنان وبيروت للمسيحيين) مكنهما من إيجاد عمق أو معاقل متصلة يحتميان فيها ويتنقلان بينها. أما التوزع الجغرافي والديموغرافي المستقر، المتقطع وغير المتصل، لانتشار السنّة (المدن الساحلية وعكار وإقليم الخروب والعرقوب في أقصى لبنان الشرقي جنوبا) فلم يمنحهم معاقل يتنقلون بينها ويحتمون فيها. لذا ظلت كل منطقة من مناطقهم منفصلة عن الأخريات. ثم إن السنّة ظلوا مشدودين إلى مفهوم الدولة- الأمة الإمبراطورية الممتدة، العربية والإسلامية، الغاربة.
للدلالة على وضع سنّة لبنان "التعيس" يرى المدور أنهم يُستضعفون في مؤسسات الدولة الإدارية الحكومية، ويسكتون على استضعافهم فيها، كأنهم يقلدون ما قاله السيد المسيح: "من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر". وتابع: "إنهم مسالمون بطبعهم ويحبون الحياة العائلية المستقرة والمطمئنة، قائلين ابتعد عن الشر وغنِّ له". وعلل ذلك بـ"نقص في حيويتهم وعدوانيتهم والأدرينالين في أجسامهم، مقارنة بأبناء الطائفة الشيعية، الفائرين فورة مستمرة منذ بدأوا ينزحون في الخمسينات من جنوبهم الفقير المدقع ولجأوا إلى بيروت طلبا للرزق والعمل وتعليم أولادهم".
ويرى المدور أن تجارب الأجيال الشيعية المتعاقبة كانت "قاسية ومريرة عليهم"، لكنها أكسبتهم خبرات لم تتوفر لسواهم: "من انخراطهم في الأحزاب العروبية واليسارية، وحملهم السلاح إلى جانب المنظمات الفلسطينية، واستجابتهم نداء موسى الصدر: السلاح زينة الرجال. ووصولا إلى تغيرهم تغيرا كبيرا مع انخراطهم في "حزب الله" الذي قلب الشخصية الشيعية اللبنانية رأسا على عقب، وحول حيويتها الاجتماعية إلى عدوانية ونظمها تنظيما عسكريا". وفي تفسيره هذا الانقلاب رأى المدور أن "إيران الفارسية الخمينية أدخلت على التشيع اللبناني العاملي (نسبة إلى جبل عامل) عنصرا جديدا غير مسبوق: الجهاد الديني الشيعي، الذي حول التقيّة والبكائيات الكربلائية إلى عنف منظم ومسلح، متوسلا قضية فلسطين وجعلها قضية المستضعفين الشيعة في العالم كله". وهنا قال المدور: "انظر إلى الحوثيين ماذا فعلوا في اليمن، وهم يصرخون من هناك الموت لإسرائيل والموت لأميركا".
أما المنظمات الجهادية السنيّة، فكانت- حسب المدور- "وبالا على السنّة وساهمت إيران في صناعتها لتشويه صورة الإسلام السنّي في العالم". وأضاف: "السجون اللبنانية تغص بأمثال أحمد الأسير (الشيخ السنّي الذي أنشأ تنظيما مسلحا) وأتباعه السُّذج من مرددي بعض العبارات السلفية التافهة"، مشيرا إلى الشبان السلفيين والجهادين السنّة المكدسين في السجون منذ سنوات بلا محاكمة، فيما "مجاهدو حزب الله المنتشرون في المشرق العربي وصولا إلى اليمن شبه مقدسين، ويمننون الدنيا والآخرة بأنهم سادة الوجود".
أما الموظفون السنّة في الإدارات العامة الحكومية في عهد رفيق الحريري، فقد "فُبركت لهم- حسب المدور- ملفات فساد في عهد الرئيس إميل لحود (1998-2007) الذي عطل مشروع الحريري لإعادة إعمار وسط بيروت". وهنا استعان الراوي بالمثل العامي ليشرح سلوك الحريري الأب والابن والسنّة معهما: "ظلوا يمشون الحيط الحيط (أي في ظل الجدران) مرددين: يا رب السترة. كأنهم حقا مذنبون وفاسدون".
في رأي عمر المدور أن وضعية السنّة لايحسِّنها تطبيق "اتفاق الطائف". لأن "حزب الله وأتباعه العونيين يستسهلون الارتداد عليه ساعة يشاءون". وهو يرى أن "الحل لسنّة لبنان يكون بتثبيت مدة حكم رأس السلطة التنفيذية (رئاسة الحكومة التي من نصيب السنّة). وذلك على غرار تحديد ولاية رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس النواب الشيعي". وختم المدور بالقول إن "حزب الله" في المرحلة القادمة "سيعين رئيس حكومة سنّيا ملحقا به إلحاقا تاما". وأضاف: "حتى قضية فلسطين سرقها الإيرانيون من العالم العربي، وجعلوها قضية جهاد حسيني"، نسبة إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.
فقدان المصداقية والنرجسية لدى اللبنانيين والسنّة منهم، تقفان سببا رئيسا وراء تدهور أوضاعهم
محمد دنا (خريج جامعي)
شهادات سريعة
وروى سائق سيارة عمومية بيروتي أن ركاب سيارته البيارتة غالبا ما يبادرون بالشكوى قبل دفع بدل السرفيس. فيتجاوب معهم ويماشيهم مستبطنا حذره من أن تكون شكاواهم مقدمة لتخفيض بدل نقلهم. وهو وصف حال ركابه على النحو التالي: تسكت الفتيات والصبايا، وتجلسن خائفات من الرجال. النسوة المتقدمات في السن ومن ربات البيوت لا تتوقفن عن النق والشكوى من غلاء أسعار السلع الغذائية وكلفة الاشتراك في مولد الطاقة الكهربائية ومن سياسيي السنّة. وغالبا ما يعزل الموظف نفسه عن الركاب الذين يستغرقون في الشكوى، مترفعا عن مشاركة العوام في شكاواهم.
وفي شهادات سريعة يكثر بين الشبان والشابات الحديث عن الرغبة في الهجرة. فروان صيداني (صبية وطالبة في الجامعة اللبنانية الدولية "LIU" لصاحبها عبد الرحيم مراد، وتعمل موظفة في محل بيع ألبسة نسائية بالأشرفية) ترى أن الوضع المادي والمعيشي في لبنان يحمل على اليأس والاختناق والقنوط، خصوصا لدى السنّة. فاحتمال حصولهم على وظائف في الإدارات الحكومية صار شبه مستحيل، رغم ضآلة المرتبات التي لا تكفي كلفة المولد الكهربائي. وهي تتمنى الهجرة إلى أوروبا بعد انتهائها من دراستها الجامعية، أو السفر للعمل في الخليج.
عمر تنبكجي (33 سنة، مطلق) لم توفر له شهادته المهنية العالية عملا مناسبا. لذا يعمل في توصيل الوجبات من المطاعم إلى البيوت على دراجة نارية. يحمل مسؤولية ولديه الصغيرين، المريض أحدهما بالتوحد. يشتكي من وضع سنّة لبنان "التعيس لأنهم نسوا الله فنساهم". وهو يحاول الهجرة إلى كندا ليتمكن من علاج ابنه.
محمد دنا (40 سنة) تخرج من جامعة الحريري ويحمل ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة بريطانية. هاجر إلى كندا وعمل باحثا في مجال الأمن السيبراني. وفي اتصال هاتفي معه عبر تطبيق "واتس آب"، اعتبر أن "فقدان المصداقية والنرجسية لدى اللبنانيين والسنّة منهم، تقفان سببا رئيسا وراء تدهور أوضاعهم". لكنه سرعان ما نسي هذا السبب وحصر تدهور أحوال سنّة لبنان بإيران و"حزب الله". ثم قال إنه "يعيش غربتين: غربة سابقة في بيروت قبل هجرته، وغربة راهنة عن بيروت في كندا".
عماد شقير (35 سنة) خريج جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت. لكنه يقيم اليوم في طربلس مع زوجته الفلسطينية الأصل، وهي خريجة جامعة بيروت العربية. غادر المصيطبة، حي أهله البيروتي إلى طرابلس، بعدما تعذر عليه العيش فيه بسبب كثرة مضايقات وتحرشات أفراد من "حزب الله". وقال قبل نحو أسبوع من عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حماس": "مشكلة سنّة لبنان والعرب سوف تُحل قريبا. فبعد عقد سيحصل الطوفان، وتزلزل الأرض زلزلتها ويظهر السفياني لينتقم لنا". وبعد عملية "حماس" اتصل بمعد هذا التحقيق مذكرا بلفظة "طوفان" وبصحة نبوءته.