من الممكن فجأة أن تنهار الأنظمة الراسخة والحياة السعيدة، بمجرد دخول جسم جديد، أو فكرة بلا تخطيط مسبق، أو حتى فكرة جيدة بحاجة إلى إنصات ومكابدة وجَلَدْ، ولكن لا تراجع، ولا استكمال، تماما مثل رواية "الطفل الخامس"، التي كتبتها ببراعة الأديبة الإنكليزية دوريس ليسنج عام 1988، وهي رواية تغوص بعمق في المناطق الخفية للعلاقات الأسرية الطيبة شكلا، والتركيز على الآثار النفسية المترتبة على إنجاب طفل صعب المراس منذ ولادته، وغير مسيطر عليه، وكأنه يريد الانتقام من شيء ما، بنوبات غضب مدمرة، ونظرات مخيفة وشيطانية، حتى والدته تشبّهه بوحش من العصور القديمة. ينقلب حال البيت، وهو ينمو بشكل سريع، ويرتكب الجرائم، بخنقه كلبا، وقتله قطة، وهو لم يبلغ الثانية من العمر بعد، كما أنه شره وعدواني، أي أنه طفل غير عادي، ولا يحبه أحد، ويفضلون الابتعاد عنه، بعد أن أصبحت تجارب اللعب معه كلها مرفوضة من إخوته الأربعة ووالديه، ليدخلوا في دوامة العجز وشعور الرفض الكامل حتى أمامه.
قادتني هذه الرواية إلى سفر مجهول اكتشفت فيه قسوة الجانب الآخر في العلاقات الأسرية (غير المذكورة)، أي الارتباطات المضمرة في الأسرة الواحدة، وفي الكثير من البيوت على هذه الأرض، حين يأتي طفل مختلف، نسمّيه بلغة اليوم متوحدا أو المصاب بطيف التوحّد، لم تذكر المؤلفة هذا المصطلح بوضوح، فحينها لم يكن التوحد منتشرا أو مفهوما، ولكنها أيضا لم تقم باستعراض أو خطابة، ولم تبد رأيا حتى، لتجد نفسك كقارئ تذهب بعيدا إلى المؤسسات والدول كأنظمة جامدة في التعاطي مع هذه الأعراض. وتصبح الأم حيرى بين الشعور بضرورة إبعاد طفلها الغريب إلى مؤسسة خاصة قاسية، وبين الشعور بالذنب، ولكن الشعور الغالب في النص هو عدم القدرة على حب الطفل بصدق وشجاعة وتضحية، ليمضي السرد بكل سلاسة وعمق وتشويق إلى هذا الطفل ومكانه الحقيقي بين أسرته والمجتمع ودولته، وتصبح الرواية من أعمق الروايات في أدب الرعب، فالتوحد أرعب أمهات العالم ولا يزال.
كُتِبَتْ الرواية بين الخيال والواقع، في منزل إنجليزي جميل وفاخر، اشترته الأسرة بالأقساط، ولعل الكاتبة اختارت زمن حدث الرواية في سبعينات القرن الماضي. وكأنه اختيار متعمد حيث الأزمات المالية في إنكلترا. سردٌ كلاسيكي من البداية إلى ثلاثين صفحة، حتى الحمل بالطفل الخامس، ليبدأ التشويق، وكأنه درس لمحبي الإنجاب، والعدد المقرر إنجابه، والذي يعني السعادة لدى البعض، لكن الطفل الخامس أتى مثل الكابوس الذي لا ينتهي، وظهر كأنه عظة تعكس مدنا ودولا تؤسس مشاريع مختلفة من أجل المزيد من الاكتمال، لكنها لا ترعى مؤسسات فعلية تحتوي هذه القضية الإنسانية الصعبة، ويدخل النص في التحليل الروحي للمكان، والجذور العميقة لثقافة الإنسان والأفكار السعيدة التي تشبه الفخاخ.
قادتني هذه الرواية إلى سفر مجهول اكتشفت فيه قسوة الجانب الآخر في العلاقات الأسرية
تسرد دوريس ليسنج الحاصلة على جائزة نوبل عام 2007، وتحلل نفسيات الأفراد عبر قصة عادية تحب الأمومة والأعراف الاجتماعية والخيارات الأخلاقية، ولأن الكتب الذكية تستطيع قراءتها بعدة طرق، فقد بدت لي العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة والسعيدة مستعدّة لتغيير جذري في روابطها، سواء من خلال الفقد، أو إضافة فرد جديد، كما الحال في هذه الرواية من خلال الطفل الخامس، ليشعرك بالذنب أثناء القراءة، ويعكس كل ما بك، ومشاعر من حولك، ومع من تعيش، وتتساءل: ما الذي فعلناه بهم، وبأنفسنا؟
عاشت ليسنج، طفولتها مع والديها في إيران، وفي زيمبابوي، ولديها أعمال مهمة، وتعد من أهم الكاتبات المعاصرات، فمن يقرأ لها يجد أنها دائما تضع المشرط على العلاقات الأسرية من حيث معاني الرحمة والألم، ومن حيث القبول والاختلاف، أمام المسؤولية تجاه أطفالنا، أو تخلينا عنهم بشكل متوتر وغير صحي، كما "الطفل الخامس"، كرواية أمومة ورعب، أو لعلها حكاية أخلاقية من النوع الذي قرأناه في رواية فرانكنشتاين لماري شيلي، أو رواية 1984 لجورج أورويل. لتأتي ليسنج وتقدم روايتها هذه بأسلوب حكايات الأمس، وكم كان سردا مكثفا ومنضبطا وآسرا، ومن دون دراما، مع اختلاف أنها أظهرت الظلام الموجود في قلب الإنسان، من خلال الشخصيات في الرواية، وكأن الظلام فيهم ظلام يموت ويولد.